المرافقون ... لكل شهيد قصته
منال أبو عبس
Al-Hayat (1,187 كلمة)
تاريخ النشر 18 فبراير 2005
خلف نوافذ 15 منزلا في لبنان، يكتسب الحزن طابعا آخر. تذرف دموع عزيزة، لكن قلة من يدرون بأمرها. فـ"لبنان خسر عموده الفقري"، والكارثة «بحجم الوطن"، والنبأ المفاجئ باغتيال الرئيس يطمس ما عداه.
استشهد في الانفجار الذي استهدف الرئيس الراحل رفيق الحريري، 15 شخصا آخرين. ربما يرتفع العدد إلى 16 أو 17 في الأيام المقبلة، لكن، هل يغير الرقم الأخير شيئا في معادلة يطمس فيها الحزن العام مثيله الخاص؟
توزعت الخسارة على محافظات لبنان الخمس (بيروت، البقاع، الشمال، جبل لبنان، والجنوب)، فنالت كل منها نصيبا متساويا من الحزن: حي العرب (ضاحية بيروت الجنوبية)، بدنايل (البقاع)، النبطية (الجنوب)، البترون وعكار (الشمال)، بيروت (العاصمة)، المتن الأعلى (جبل لبنان)...
المرافقون
يضرب الوالد بكفي يديه على هيكل سيارة الإسعاف الخارجي. الوالد يعلم أن جثمان ابنه القابع في خلفية السيارة لن يستيقظ ليرد على صرخاته ومناداته، لكن المصاب الأليم لا يترك مجالا للتفكير والتحليل. تغيب الكاميرات عن هذه النقطة من المسيرة، لتعود في اللحظة التي وصلت فيها الجثامين إلى باحة مسجد محمد الأمين. تنقل مباشرة رحلة مرافقي الرئيس الراحل إلى مثواهم الأخير، وتصب الصورة لما تبقى من أيام على ضريح الرئيس الذي تحول محجة لأنصاره ومحبيه.
أضرحة مرافقي الرئيس تقبع على بعد خطوات عدة من مكان دفنه، وقد يكون موقعها هذا السبب الوحيد الذي دفع آلاف الزائرين إلى إضاءة الشموع وتلاوة الصلوات عن أرواحهم، بعد فعل المثل أمام ضريح الرئيس الشهيد. لكن، قلة قليلة فقط من الزائرين تعلم انه كان لكل واحد من المرافقين السبعة قصة، ولكل منهم نهاية كان يحلم ببلوغها.
أبو طارق العرب هو الأشهر بينهم. قبل أيام من وفاته، انزلق المرافق الشخصي للرئيس الحريري في الحمام. لم يصب بأذى فعاد إلى العمل. في الرابع عشر من شباط (فبراير) الحالي، كان أبو طارق العرب أول من أعلن نبأ وفاته اثر الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس. يحيى العرب متأهـل ولديه ثلاثة أولاد، وكان يعيـــش في ضاحية بيروت الجنوبية.
يصل صوت النحيب والصراخ إلى الشارع المجاور، فيعرف زائر «حي العرب» في الضاحية الجنوبية أن نكبة أصابت المكان. صوت الحاجة فايزة أخت الشهيد يصدح في الأرجاء، وكلمة «يا خيي» عندما تقال بحسرة، تقع في الأنفس كضربات السيف. «الله يصبرني عفراقك يا خيي، بشوفك عالتلفزيون بدعيلك الله يحفظك"، تقول الأخت أمام عائلة خسرت ركنا من أركانها، الركن الأهم، على الأرجح، فـ"مين بدو يقوم فينا بعد اليوم؟ الموت حق بس فراق الحبايب صعب». يستلقي أبو طارق اليوم إلى جوار زملائه والعاملين تحت أمرته، ورئيسه الذي صار رفيقه الأبدي.
بعض من مدنيين
أولا، نزلت آلاء حسن عصفور (20 عاما) من بلدتها بريقع (قضاء النبطية) إلى بيروت لتقديم طلب وظيفة في إحدى الشركات، التي قرأت إعلانا عنها. قصدت آلاء برفقة ابنة خالتها يمامة كامل ضامن (27 سنة) منطقة الأسواق التجارية في وسط بيروت للمرة الأولى في حياتها. وقع الانفجار القاتل الذي استهدف الرئيس رفيق الحريري، ولم تحصل آلاء على وظيفة تساعد من خلالها عائلتها. شيعت الفتاتان في بلدة بريقع في موكب مهيب.
ثانيا، «إن الشهيد رواد هو عنوان لقصيدة لم تكتب وما زالت تفتش لها عن عنوان"، يقول شاعر المقاومة المحامي حسين حيدر في مأتم ابنه رواد الذي سار فيه الآف من أبناء منطقة بدنايل البقاعية ورسميون.
ثالثا، خرجت الدكتورة ريما بزي (32 عاما، بنت جبيل) من المصرف البريطاني عند الواحدة ظهرا، سارت خطوات عدة ووقع المحظور. شيعت الشهيدة في بيروت إلى جبانة الشهيدين بمشاركة حشد كبير من أهالي البلدة، الذين توافدوا إلى بيروت للمشاركة في الجنازة في حضور النائب علي بزي.
رابعا، كان جوزيف عون يعمل في فندق «السان جورج» عندما طاوله الانفجار وهو جالس الى مكتبه المقابل للشارع الذي حصل فيه الانفجار. شيع عون في مأتم أقيم في كنيسة مار اسطفان في مسقط رأسه في البترون، في حضور النائب بطرس حرب وحشد كبير من المشيعين.
خامسا، كان هيثم عثمان (مواليد 1975) يعمل في أحد مطاعم بيروت وكان يقوم بنقل طلبية على دراجته النارية لحظة الانفجار. شيعته بلدته مجدلا (قضاء عكار) عقب صلاة الظهر في جبانة البلدة، وسط جو من الحزن الشديد.
سادسا، كان عبدو توفيق بو فرح (مواليد 1940) جالسا خلف مكتبه في «فندق السان جورج» يتابع عمله كالمعتاد. شيع عبدو في قاعة «كنيسة مار جرجس» في حمانا، في حضور نواب «اللقاء الديموقراطي» وفاعليات حزبية وسياسية ومخاتير.
مازن لم يمت
أقيم في المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت حفل تأبين لمازن عدنان الذهبي (1974) الذي تخرج في برنامج تدريب الممرضين في المركز الطبي وعمل فيه قبل أن يصبح الممرض الشخصي للرئيس رفيق الحريري، وقضى معه في الانفجار.
يرقد مازن اليوم إلى جوار مرافقي الحريري في باحة المسجد. يتابع من مكانه الجديد ما يجرى من حوله. فالأموات يعلمون بوجودنا، أليس كذلك؟
لكن، هل يعلم أي من زائري المكان أن مازن انضم حديثا إلى قائمة موظفي الحريري؟ وهل يعلم أي منهم أن مازن الذي عقد قرانه منذ أشهر عدة، كان ينوي الزواج أوائل الصيف المقبل؟ وهل يعلم أحد أن خطيبة الشهيد ترفض بكاءه «لأنه لم يمت"، لأن «راح نتلاقى بيوم من الأيام"؟
كثيرون يعلمون أن مازن سقط شهيدا يوم عيد الحب، لكن قلة قليلة فقط فكرت انه ربما اختار ليومه نهاية أخرى. ربما أراد أن ينهي مناوبته، ليشتري لها وردة حمراء ويطبع على جبينها قبلة، ويعدها بعيـــد جديد يقضيانـــه في منزلهما الخاص، «إذا الله أراد».
منال أبو عبس
Al-Hayat (1,187 كلمة)
تاريخ النشر 18 فبراير 2005
خلف نوافذ 15 منزلا في لبنان، يكتسب الحزن طابعا آخر. تذرف دموع عزيزة، لكن قلة من يدرون بأمرها. فـ"لبنان خسر عموده الفقري"، والكارثة «بحجم الوطن"، والنبأ المفاجئ باغتيال الرئيس يطمس ما عداه.
استشهد في الانفجار الذي استهدف الرئيس الراحل رفيق الحريري، 15 شخصا آخرين. ربما يرتفع العدد إلى 16 أو 17 في الأيام المقبلة، لكن، هل يغير الرقم الأخير شيئا في معادلة يطمس فيها الحزن العام مثيله الخاص؟
توزعت الخسارة على محافظات لبنان الخمس (بيروت، البقاع، الشمال، جبل لبنان، والجنوب)، فنالت كل منها نصيبا متساويا من الحزن: حي العرب (ضاحية بيروت الجنوبية)، بدنايل (البقاع)، النبطية (الجنوب)، البترون وعكار (الشمال)، بيروت (العاصمة)، المتن الأعلى (جبل لبنان)...
المرافقون
يضرب الوالد بكفي يديه على هيكل سيارة الإسعاف الخارجي. الوالد يعلم أن جثمان ابنه القابع في خلفية السيارة لن يستيقظ ليرد على صرخاته ومناداته، لكن المصاب الأليم لا يترك مجالا للتفكير والتحليل. تغيب الكاميرات عن هذه النقطة من المسيرة، لتعود في اللحظة التي وصلت فيها الجثامين إلى باحة مسجد محمد الأمين. تنقل مباشرة رحلة مرافقي الرئيس الراحل إلى مثواهم الأخير، وتصب الصورة لما تبقى من أيام على ضريح الرئيس الذي تحول محجة لأنصاره ومحبيه.
أضرحة مرافقي الرئيس تقبع على بعد خطوات عدة من مكان دفنه، وقد يكون موقعها هذا السبب الوحيد الذي دفع آلاف الزائرين إلى إضاءة الشموع وتلاوة الصلوات عن أرواحهم، بعد فعل المثل أمام ضريح الرئيس الشهيد. لكن، قلة قليلة فقط من الزائرين تعلم انه كان لكل واحد من المرافقين السبعة قصة، ولكل منهم نهاية كان يحلم ببلوغها.
أبو طارق العرب هو الأشهر بينهم. قبل أيام من وفاته، انزلق المرافق الشخصي للرئيس الحريري في الحمام. لم يصب بأذى فعاد إلى العمل. في الرابع عشر من شباط (فبراير) الحالي، كان أبو طارق العرب أول من أعلن نبأ وفاته اثر الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس. يحيى العرب متأهـل ولديه ثلاثة أولاد، وكان يعيـــش في ضاحية بيروت الجنوبية.
يصل صوت النحيب والصراخ إلى الشارع المجاور، فيعرف زائر «حي العرب» في الضاحية الجنوبية أن نكبة أصابت المكان. صوت الحاجة فايزة أخت الشهيد يصدح في الأرجاء، وكلمة «يا خيي» عندما تقال بحسرة، تقع في الأنفس كضربات السيف. «الله يصبرني عفراقك يا خيي، بشوفك عالتلفزيون بدعيلك الله يحفظك"، تقول الأخت أمام عائلة خسرت ركنا من أركانها، الركن الأهم، على الأرجح، فـ"مين بدو يقوم فينا بعد اليوم؟ الموت حق بس فراق الحبايب صعب». يستلقي أبو طارق اليوم إلى جوار زملائه والعاملين تحت أمرته، ورئيسه الذي صار رفيقه الأبدي.
بعض من مدنيين
أولا، نزلت آلاء حسن عصفور (20 عاما) من بلدتها بريقع (قضاء النبطية) إلى بيروت لتقديم طلب وظيفة في إحدى الشركات، التي قرأت إعلانا عنها. قصدت آلاء برفقة ابنة خالتها يمامة كامل ضامن (27 سنة) منطقة الأسواق التجارية في وسط بيروت للمرة الأولى في حياتها. وقع الانفجار القاتل الذي استهدف الرئيس رفيق الحريري، ولم تحصل آلاء على وظيفة تساعد من خلالها عائلتها. شيعت الفتاتان في بلدة بريقع في موكب مهيب.
ثانيا، «إن الشهيد رواد هو عنوان لقصيدة لم تكتب وما زالت تفتش لها عن عنوان"، يقول شاعر المقاومة المحامي حسين حيدر في مأتم ابنه رواد الذي سار فيه الآف من أبناء منطقة بدنايل البقاعية ورسميون.
ثالثا، خرجت الدكتورة ريما بزي (32 عاما، بنت جبيل) من المصرف البريطاني عند الواحدة ظهرا، سارت خطوات عدة ووقع المحظور. شيعت الشهيدة في بيروت إلى جبانة الشهيدين بمشاركة حشد كبير من أهالي البلدة، الذين توافدوا إلى بيروت للمشاركة في الجنازة في حضور النائب علي بزي.
رابعا، كان جوزيف عون يعمل في فندق «السان جورج» عندما طاوله الانفجار وهو جالس الى مكتبه المقابل للشارع الذي حصل فيه الانفجار. شيع عون في مأتم أقيم في كنيسة مار اسطفان في مسقط رأسه في البترون، في حضور النائب بطرس حرب وحشد كبير من المشيعين.
خامسا، كان هيثم عثمان (مواليد 1975) يعمل في أحد مطاعم بيروت وكان يقوم بنقل طلبية على دراجته النارية لحظة الانفجار. شيعته بلدته مجدلا (قضاء عكار) عقب صلاة الظهر في جبانة البلدة، وسط جو من الحزن الشديد.
سادسا، كان عبدو توفيق بو فرح (مواليد 1940) جالسا خلف مكتبه في «فندق السان جورج» يتابع عمله كالمعتاد. شيع عبدو في قاعة «كنيسة مار جرجس» في حمانا، في حضور نواب «اللقاء الديموقراطي» وفاعليات حزبية وسياسية ومخاتير.
مازن لم يمت
أقيم في المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت حفل تأبين لمازن عدنان الذهبي (1974) الذي تخرج في برنامج تدريب الممرضين في المركز الطبي وعمل فيه قبل أن يصبح الممرض الشخصي للرئيس رفيق الحريري، وقضى معه في الانفجار.
يرقد مازن اليوم إلى جوار مرافقي الحريري في باحة المسجد. يتابع من مكانه الجديد ما يجرى من حوله. فالأموات يعلمون بوجودنا، أليس كذلك؟
لكن، هل يعلم أي من زائري المكان أن مازن انضم حديثا إلى قائمة موظفي الحريري؟ وهل يعلم أي منهم أن مازن الذي عقد قرانه منذ أشهر عدة، كان ينوي الزواج أوائل الصيف المقبل؟ وهل يعلم أحد أن خطيبة الشهيد ترفض بكاءه «لأنه لم يمت"، لأن «راح نتلاقى بيوم من الأيام"؟
كثيرون يعلمون أن مازن سقط شهيدا يوم عيد الحب، لكن قلة قليلة فقط فكرت انه ربما اختار ليومه نهاية أخرى. ربما أراد أن ينهي مناوبته، ليشتري لها وردة حمراء ويطبع على جبينها قبلة، ويعدها بعيـــد جديد يقضيانـــه في منزلهما الخاص، «إذا الله أراد».
No comments:
Post a Comment