Tuesday, February 15, 2005

حيث البحر بلا شاطئ

على كورنيش بيروت حيث البحر بلا شاطئ ارتشفت قهوتي في الغولف الحمراء

منال أبو عبس
Al-Hayat (886 كلمة)
تاريخ النشر 15 فبراير 2005



كان الفتى ذكيا عندما رمى الوردة من نافذة السيارة ورحل. نافذة السيارة يسهل فتحها وإغلاقها، على عكس بابها الأحمر. الفتى لا يتجاوز التاسعة. نظر في وجهي المتجهم، ولم تردعه إيماءة يدي العدائية. فتحة النافذة ضيقة جدا، والوردة على حضني.

ثقل يوم بيروتي هائل سأنزعه في هذه اللحظة. وحدها بيروت تثقل الكاهل على مدار الساعة. أشاهد السيارات تدوس بيروت مسرعة. ابتسم بتشف ثوري منظم.

على الكورنيش البحري بين فندق السان جورج وعين المريسة تكتسب الحياة طابعا آخر.

لا شاطئ هنا ليلامس القدمين. السور الحديد يسيج الرصيف العالي ويمنع القفز تحت طائلة المسؤولية. هل من مجنون يقفز في مياه بحر لا شاطئ له؟ المياه تعلو. ترتطم بالحاجز. تنفصل قطراتها. تنقذف كطفل دفعه أبوه نحو أعلى مرات متتالية. تصل بعض القطرات إلى المقهى المجاور. «أنكل ديك"، هو اسم المقهى. «أنكل ديك» حيث لا كراسي ولا طاولات، حيث فناجين بلاستيكية يحملها العجوز الواقف خارجا، مقابل 500 ليرة بخشيش في احسن الأحوال. «أنكل ديك» حيث كوب القهوة ب750 ليرة. والكوبان بألف وخمسمئة ليرة، يغذيان جلسة تستمر لساعات، على بحر بلا شاطئ. لا يكف رأسي عن الدوران.

سيارة الغولف الحمراء صغيرة، لكنني أحبها. اوتيل «فينيسيا» كبير، ينتصب أمام عيني مباشرة. الحديد قاسم مشترك بين الغولف الصغيرة والفندق الكبير. ضوء السيارة عنصر سيغيب في هذه اللحظة. ومعه ستغيب مخلفات يوم مزعج بدأ مع سائق «السيرفيس» صباحا، وانتهى بخبر مزعج في وكالة أنباء رصدتها لساعات طويلة. تنعكس أضواء الفندق الذهب على الأحمر الذي يلون معظم السيارات المركونة جانبا. انظر عبر شباك الطابق الأخير الذي أراه مثلما أحب أن اراه... صالة أعراس. أرى شابة تتمايل بفستان ابيض إلى جانب رجل يكبرها بأعوام كثيرة. في النقطة الأبعد من العروسين أرى فتى وصبية وأسمع أغنية عاطفية مضحكة. تتحدث الأغنية عن الحب والخبز والزيتون. الطاولة أمام الشابين مملوءة بصنوف مختلفة من الأطعمة، لكن الأغنية تمجد الخبز والزيتون. ما هي العلاقة بين كبر السن والمال؟ يشغل السؤال بالي، وأتذكر أنني تخليت قبل قليل عن ثقل يومي البيروتي الهائل.

تعصب اللبنانيين الأعمى، يخرجني من مزاجي المريح. تعصب شابين لم تعجبهما لكنة بائع الفستق. أجنبي على كورنيش بحر مشرع للجميع. يمسك البائع عربته بيده اليسرى، دافعا عنه أحد الشابين باليمنى. العربة تحمل كمية كبيرة من الفستق. يخرج البخار الرمادي من عمود يتوسطها، فأعرف أن الفستق ما زال دافئا. الخناقة تقع سريعا. وحماية العربة ثقل إضافي على كاهل الغريب. يتلقى البائع ضربة أولى على خده الأيمن. لا يدير خده الأيسر. هو ليس متسامحا. وينال اللبناني نصيبا وافرا من اللكمات. الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، ليس موجودا على الكورنيش. كونديرا يعرف أن المرء لا يتصرف على طبيعته بوجود الكاميرا. في «خفة الكائن التي لا تحتمل» يتحدث كونديرا عن التغيير الذي يطاول تصرف الشخص، ما إن يصير محطا لأنظار الغير. يصير الشاب فجأة محط أنظار المارة وأنا. ذكوريته تأبى أن يرحل. يستجمع قامته القصيرة، ويفر من أيدي المصلحين قاصدا انتقاما علنيا.

لا أعلم ما الذي دار في رأس الشاب قبل أن يضرب بائع الفستق. هل دفعه ثقل يومه إلى خناقة، هي الأمثل ليوم يشبه يومي المزعج (نزعت ثقله عني قبل قليل)؟ كلمة «يدور» يستخدمها سائقو التاكسي في لبنان عادة بعد كلمة «يلف» التي تؤدي المعنى نفسه. يحتج السائقون على اللف طيلة النهار مقابل «لا شيء"! هل يعمل الإنسان من دون مقابل؟ ليس السؤال مهما. فالسائق لم يكن سببا في ثقل يوم الشاب البيروتي الهائل.

استدعي سائق التاكسي إلى هذا المكان من النص بداعي الصدفة. كونديرا والغولف الحمراء ويوميات عين المريسة كلها دخلت حياتي من طريق صدفة. لا شيء احلى من حياة تدب فيك من طريق الصدفة. ولكن، هل فعلا ثمة شيء اسمه صدفة؟ كونديرا لا يؤمن بذلك، أما أنا فبلى.

على الكورنيش البحري بين فندق السان جورج وعين المريسة تكتسب الحياة طابعا آخر. الكورنيش البحري ومساحة تقل عما تمكن رؤيته بالعين المجردة كانت تشكل بيروت القديمة. تغيرت معالم بيروت واتسعت، وغدت يومياتي اكثر ثقلا. لم اكن اعلم أنني احمل يوميا ثقل بيروت المتسعة فأفرغه في أضيق نقطة فيها. الأمكنة الضيقة حميمة، وبيروت تحشرني في زاويتي الضيقة. في الغولف الحمراء، اجلس يوميا، انظر إلى الفندق الفخم، وأبحث في فنجان القهوة عن بضع قطرات تجعل جلوسي يدوم ساعات طويلة.

طابق، اثنان، ثلاثة، أربعة... ثلاثة وعشرون. بلمح البصر ارتفع البناء المقابل لكورنيش السان جورج. أراني اقف في الطابق الأخير. انظر إلى بيروت من فوق. أنظر إلى تفصيل صغير حشر صدفة في بداية النص. انظر إلى الفتى الذي كان ذكيا عندما رمى الوردة من نافذة السيارة ورحل.

No comments:

Post a Comment