Saturday, August 7, 2004

صغار يبيعون الورد

ظاهرة تنتعش خلال موسم السياحة في لبنان . صغار يبيعون الورد ويحصدون الشفقة

منال أبو عبس
Al-Hayat (976 كلمة)
تاريخ النشر 07 أغسطس 2004

يدق الفتى على زجاج السيارة المتوقفة أمام إشارة مرور بيده. «اعطني خمس مية ليرة، الله يخليك»، يقول للسائقة. ملامحه الحزينة تثير شفقتها، فتلبي طلبه. بعد قليل، يتقدم الفتى نحو سيارة أخرى. يعيد الطلب نفسه، غير أن السائق هذه المرة يصرخ بالفتى، محاولا اللحاق به، وضربه. كان هذا مضمون الإعلان المتلفز الذي بثته وزارة الداخلية اللبنانية، لدعوة المواطنين إلى عدم الامتثال لطلبات «أطفال الشوارع» وتبليغ الأجهزة الأمنية عن أماكن وجودهم، كي تبادر الأخيرة إلى «مساعدتهم وتأمين البيئة الملائمة لهم». مضمون الإعلان ليس إلا صورة مكررة يشهدها السائقون والمارة كلما صودف مرورهم في إحدى مناطق بيروت المزدحمة، فالأطفال كثر والوظائف التي يؤدونها على الطرقات تختلف باختلاف مهنة كل منهم واهتماماته: مسح الأحذية، بيع العلكة وأدوات المنزل والألعاب، مسح زجاج السيارات...

أطفال الشوارع في لبنان ظاهرة ليست جديدة، إلا أنها غالبا ما تشهد نموا ملحوظا مع ازدياد حدة الضائقة الاقتصادية. وتنتعش خلال موسم السياحة، حيث يزداد عدد الأطفال المتسولين، ويتمركزون في مناطق التسوق وأمام الفنادق والمنتجعات السياحية، حيث تكون الدوريات في انتظارهم.

يدخر القسط

يحمل علي (7 سنوات) «دلوا» صغيرا، في داخله اثنتا عشرة وردة حمراء، كل منها مغلفة بورقة بلاستيكية مزينة بقلوب صغيرة. ملامحه الطفولية وهندامه المرتب، لا يدلان على أنه متسول. «أنا بائع ورود». «أنا بائع ولست متسولا»، يقول موضحا.

عند السادسة من مساء كل يوم يقل والد علي ابنه إلى كورنيش البحر، قبل أن ينصرف الى العمل على سيارة الأجرة خاصته. عند العاشرة والنصف ليلا يعود لأخذه «بعد أن يكون أرهقني الذهاب والإياب على الكورنيش لبيع كل الورود».

لا يتأفف علي من عمله، بل يبدو مقتنعا به: «والدي يعمل منذ الفجر حتى الليل، ليعيل اخوتي. أنا اعمل لأساعده في المصروف وأعتمد على نفسي». وقد تكون الطبيعة اللطيفة لمهنة علي اكثر ما يريحه، فعلى عكس الأطفال العاملين الآخرين، لا يتعرض للإهانات أو الضرب. «عندما أرى عاشقين أحوم حولهما مناديا: ورد... ورد. إذا ابتسم أحدهما لي أتقدم عارضا البضاعة. أما إذا لم يفعل، فأكتفي بالمناداة من بعيد. لا أضايق أحدا، ولا أصر على بيع الورود لشخص لا يريد شراءها»، يعلق ممازحا.

علي الذي لا يعرف سبب «اختفاء» والدته، يقضي النهار كله في المنزل أو مع الرفاق في الحي، «لأن الحر يمنع العشاق من النزول إلى الكورنيش». وينتظر حين يسجله والده في المدرسة بعد أن «أدخر ثمن القسط».

إذا كان علي اتخذ من بيع الورود مهنة، فإن أطفالا آخرين اختاروا عملا اكثر صعوبة. احترفوا التسول المتعدد الوجوه، فغدا مورد رزق لهم ولعائلاتهم.

ما إن يظهر اللون الأحمر في الإشارة المقابلة لأحد اكثر تقاطعات بيروت زحمة، حتى يتدافعوا إلى منتصف الشارع. نحو عشرة أطفال، لا يزيد عمر أكبرهم عن 13 عاما، يتخذون من هذه المنطقة الخطرة مرتعا لكسب الرزق والعيش.

اسفنجة رطبة، ماسحة صغيرة، ودلو ماء هي كل ما يحتاج اليه شادي (12 عاما) لبدء نهار عمل جديد. جسده النحيل يساعده على التنقل بسرعة بين السيارات، ليؤدي عمله «قبل أن يفتح خط السير».

«النساء يدفعون عادة اكثر من الرجال»، يقول شادي مبديا انزعاجه من الشبان الذين يصرخون عليه أو يطلبون منه مسح الزجاج اكثر من مرة، و«يهربون». هذا عدا المرات الكثيرة التي يتعرض فيها للضرب أو الشتم من «الزعران وراكبي الدراجات النارية». رجال الأمن، شبح آخر يلاحق شادي ورفاقه، فيفرون من دون وعي ما إن يسمعوا صفير «سيارات الدورية».

وعلى رغم نفي الأطفال وجود ما يسمى بـ«عصابات التسول»، يؤكد أحد القاطنين مقابل تقاطع بشارة الخوري في بيروت أنه شاهد مرات عدة سيارة تنزل مجموعة من الأطفال أمام التقاطع صباحا، وتعود لجمعهم ليلا.

«عصابات التسول»، قد تكون سببا رئيسا يمنع الناس من التجاوب مع مطالب «أطفال الشوارع»، وهذا هو بالضبط ما تدعو إليه الجهات الرسمية والجمعيات المعنية. ومنها، جمعية «الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان» UPEL، التي تأسست قبل اعوام. وهي جمعية شبه رسمية ترعاها وتمولها كل من وزارتي الشؤون الاجتماعية والعدل والهيئة العليا للإغاثة. وتهدف الجمعية إلى حل مشكلات الأحداث وانحرافهم.

وعلى رغم سعي وزارة الداخلية اللبنانية منذ مطلع التسعينات إلى الحد من ظاهرة الأطفال المتسولين، إن من طريق مطاردتهم والقاء القبض عليهم وتسليمهم إلى الإصلاحيات، أو التعاون مع الجمعيات غير الحكومية لتأمين رعايتهم، أو من طريق حث المواطنين على «مساعدتهم بالطريقة الصحيحة» من طريق الإعلانات التلفزيونية.

وتجدر الإشارة إلى أن عددا كبيرا من «أطفال الشوارع» لا يحملون الجنسية اللبنانية، كما بينت دراسة نفذتها الجامعة الأميركية في بيروت أخيرا، وتضمنت مسحا ميدانيا للتحقيق في ظروف معيشة 4800 طفل مقيم. وقال المشرفون عليها إن 75 في المئة من «أطفال الشوارع» غير لبنانيين.

No comments:

Post a Comment