11 شابا يتقاسمون غرفة في بيروت ويجهل بعضهم بعضا
منال أبو عبس
Al-Hayat (895 كلمة)
تاريخ النشر 17 أغسطس 2004
لا تدور الأحداث الآتية في منطقة نائية من لبنان، بل في واحدة من أرقى مناطق بيروت، وأكثرها هدوءا.
ينزل الشاب على سلم من درجتين ويسير أمتارا قليلة، قبل أن يصل إلى غرفته التي بنيت في باحة مبنى قديم. الباحة المصممة لتكون حديقة، لم تستغل لهذه الغاية، فأصحابها استحدثوا خلال الحرب غرفا صغيرة، تناثرت في شكل عشوائي، وأطلق المستأجرون عليها اسم «الدار». في وسط الدار بركة ماء تستعملها الجارة التي تسكن في المكان منذ ثلاثين عاما. لبركة الماء هذه وحدها الفضل في كشف النقاب عن حياة اختار 11 شابا حصرها بين جدران أربعة تحيط بما يقل عن سبعة أمتار مربعة. الغرفة تلك، استأجرها صاحب مطعم شهير أثناء الحرب، وخصصها لسكن موظفيه الأجانب في غالبيتهم. «في ما مضى لم يتعد عدد ساكني الغرفة الأربعة، أما اليوم فلا نرى إلا شبانا يدخلون ويخرجون... اكثر من عشرة»، تقول الجارة التي «ستسهر الليلة حتى الصباح في انتظار معرفة من الذي يسرق لها مياه البركة ليلا».
«نعمل في الفرن التابع لمطعم صاحب الغرفة»، هذا ما علل به أحد الشبان وجوده في الدار، مضيفا أنه ليس وحيدا بل هناك اكثر من عشرة عمال يشاطرونه المكان. لا يعرف جنسية جميع زملائه في السكن، فـ«الشبان يتناوبون على الحضور بحسب دوامات عملهم المختلفة. اثنان فقط موجودان خلال النهار».
الساعة الآن التاسعة مساء، والشاب الذي عاد لتوه من العمل يطلب الإذن من رفاقه ليريني مسكنه. تغيب عن الغرفة أبسط شروط ومواصفات السكن المناسب لحياة أي إنسان وإقامته. شباك واحد، فرشة وحصيرة، عدد من الكراسي البلاستيك، طاولة مستديرة وكنبة عتيقة، تلتصق ببعضها بعضا.
الحديث عن الوضع الصحي في مكان كهذا قد يبدو ترفا مبالغا فيه، إذا قارنا سعة المكان بعدد القاطنين. غير أن غياب التهوئة والإضاءة، يجعلان المكان يبدو اكثر فقرا وأقل نظافة. الشاب الذي وافق على التحدث عن الوضع سوري الجنسية، لم يتعد العشرين من العمر ويعمل في فرن للمناقيش. هو لا يعرف رفاقه جميعا غير انه قال إن جنسياتهم تختلف بين السورية والمصرية والعراقية والسودانية.
جاء الشاب إلى لبنان هربا من الفقر الذي يعانيه أهله في سورية. وعلى رغم أن معيشته في هذه الغرفة التي تقع تحديدا في الدرج الأخير من سلم الفقر، فإنه يبدو قانعا بها. «على رغم أن الحياة هنا ليست سهلة، إلا أنني على الأقل ادخر جزءا من يومياتي استعدادا للعودة ذات يوم إلى بلادي»، يقول محاولا إقناعنا بتقبله الأمر. ويضيف: «أصلا نحن لا نستخدم الغرفة إلا للنوم، نأتي متعبين إلى درجة تمنعنا من التفكير إذا كانت المنامة مريحة أم لا. المهم أن نغفو ونصحو في اليوم التالي إلى العمل». الاستحمام وغسل الملابس ضرورة تجاهلها الشاب أثناء حديثه، ربما لأن «السكن في الغرفة لا يشمل تأمين المياه، والمؤجر اخبرنا انه إذا كسبنا عطف الجارة القديمة تعطينا من المياه الخاصة بها». ينتقد رفاقه الذين يسرقون المياه من بركة الجارة، محملا إياهم مسؤولية ما سيتأتى عن غياب المياه، وغضب الجارة التي «ما إن رأتني ادخل حتى بدأت تصيح بي، أخبرتني أنها ستحضر الدرك، فخاف رفاقي وبتنا الآن بلا ماء».
رفيقاه في الداخل عراقيان، «هربا إلى لبنان عندما اندلعت الحرب»، يعللان عزوفهما عن الكلام بأنهما لا يملكان إقامة ويخافان أن يرحلهما رجال الأمن إذا علموا بوجودهما. الترحيل إلى العراق كابوس بالنسبة إلى الشابين. «في العراق كنا نعيش بين أهلنا، جاءت الحرب ودمرت المنزل. لم اعرف كيف تركت العراق، ولن أعود قبل أن يستتب الأمن، فالحياة في الفقر خير من الموت بصاروخ أميركي... أو الاعتقال في أبو غريب»، يقول احدهما ممازحا.
الغرفة المقابلة استأجرها حديثا شاب وزوجته. ويقول: «تزوجنا قبل شهرين، ولا نملك ثمن شقة. أجرة هذه الغرفة مع المطبخ والحمام رخيصة. تكفي لشخصين من دون أولاد». غرفة الزوجين مرتبة وتتمتع بمواصفات السكن الصحي، لكن مشكلتها الوحيدة أن «الشبان الذين يسكنون في المقابل يدخلون ويخرجون طوال الليل، مثيرين الريبة في قلوب الجيران».
الكفيل أو صاحب العمل، عنصر أساس في هذا الوضع. الجارة القديمة تعرف انه استأجر الغرفة منذ سنوات طويلة ليسكن بها أربعة من عماله، لكنها اليوم مستاءة من عدم اهتمامه بهم والأهم من ذلك كله «عدم تأمين المياه لهم».
«صاحب العمل قد لا يكون مدركا الوضع»، كان هذا الدافع غير المنطقي هو السبب الأساس لزيارة المطعم حيث يعمل الشبان، فضلا عن الرغبة في التحدث إلى الشبان الآخرين. «المطعم لا يبعد عن غرفة السكن الجماعي كثيرا»، قالت الجارة وهي تصف الطريق المؤدي إليه.
«المطعم اقفل منذ اكثر من خمس سنوات، وصاحبه هاجر إلى أميركا»، قال صاحب المحل المجاور.
منال أبو عبس
Al-Hayat (895 كلمة)
تاريخ النشر 17 أغسطس 2004
لا تدور الأحداث الآتية في منطقة نائية من لبنان، بل في واحدة من أرقى مناطق بيروت، وأكثرها هدوءا.
ينزل الشاب على سلم من درجتين ويسير أمتارا قليلة، قبل أن يصل إلى غرفته التي بنيت في باحة مبنى قديم. الباحة المصممة لتكون حديقة، لم تستغل لهذه الغاية، فأصحابها استحدثوا خلال الحرب غرفا صغيرة، تناثرت في شكل عشوائي، وأطلق المستأجرون عليها اسم «الدار». في وسط الدار بركة ماء تستعملها الجارة التي تسكن في المكان منذ ثلاثين عاما. لبركة الماء هذه وحدها الفضل في كشف النقاب عن حياة اختار 11 شابا حصرها بين جدران أربعة تحيط بما يقل عن سبعة أمتار مربعة. الغرفة تلك، استأجرها صاحب مطعم شهير أثناء الحرب، وخصصها لسكن موظفيه الأجانب في غالبيتهم. «في ما مضى لم يتعد عدد ساكني الغرفة الأربعة، أما اليوم فلا نرى إلا شبانا يدخلون ويخرجون... اكثر من عشرة»، تقول الجارة التي «ستسهر الليلة حتى الصباح في انتظار معرفة من الذي يسرق لها مياه البركة ليلا».
«نعمل في الفرن التابع لمطعم صاحب الغرفة»، هذا ما علل به أحد الشبان وجوده في الدار، مضيفا أنه ليس وحيدا بل هناك اكثر من عشرة عمال يشاطرونه المكان. لا يعرف جنسية جميع زملائه في السكن، فـ«الشبان يتناوبون على الحضور بحسب دوامات عملهم المختلفة. اثنان فقط موجودان خلال النهار».
الساعة الآن التاسعة مساء، والشاب الذي عاد لتوه من العمل يطلب الإذن من رفاقه ليريني مسكنه. تغيب عن الغرفة أبسط شروط ومواصفات السكن المناسب لحياة أي إنسان وإقامته. شباك واحد، فرشة وحصيرة، عدد من الكراسي البلاستيك، طاولة مستديرة وكنبة عتيقة، تلتصق ببعضها بعضا.
الحديث عن الوضع الصحي في مكان كهذا قد يبدو ترفا مبالغا فيه، إذا قارنا سعة المكان بعدد القاطنين. غير أن غياب التهوئة والإضاءة، يجعلان المكان يبدو اكثر فقرا وأقل نظافة. الشاب الذي وافق على التحدث عن الوضع سوري الجنسية، لم يتعد العشرين من العمر ويعمل في فرن للمناقيش. هو لا يعرف رفاقه جميعا غير انه قال إن جنسياتهم تختلف بين السورية والمصرية والعراقية والسودانية.
جاء الشاب إلى لبنان هربا من الفقر الذي يعانيه أهله في سورية. وعلى رغم أن معيشته في هذه الغرفة التي تقع تحديدا في الدرج الأخير من سلم الفقر، فإنه يبدو قانعا بها. «على رغم أن الحياة هنا ليست سهلة، إلا أنني على الأقل ادخر جزءا من يومياتي استعدادا للعودة ذات يوم إلى بلادي»، يقول محاولا إقناعنا بتقبله الأمر. ويضيف: «أصلا نحن لا نستخدم الغرفة إلا للنوم، نأتي متعبين إلى درجة تمنعنا من التفكير إذا كانت المنامة مريحة أم لا. المهم أن نغفو ونصحو في اليوم التالي إلى العمل». الاستحمام وغسل الملابس ضرورة تجاهلها الشاب أثناء حديثه، ربما لأن «السكن في الغرفة لا يشمل تأمين المياه، والمؤجر اخبرنا انه إذا كسبنا عطف الجارة القديمة تعطينا من المياه الخاصة بها». ينتقد رفاقه الذين يسرقون المياه من بركة الجارة، محملا إياهم مسؤولية ما سيتأتى عن غياب المياه، وغضب الجارة التي «ما إن رأتني ادخل حتى بدأت تصيح بي، أخبرتني أنها ستحضر الدرك، فخاف رفاقي وبتنا الآن بلا ماء».
رفيقاه في الداخل عراقيان، «هربا إلى لبنان عندما اندلعت الحرب»، يعللان عزوفهما عن الكلام بأنهما لا يملكان إقامة ويخافان أن يرحلهما رجال الأمن إذا علموا بوجودهما. الترحيل إلى العراق كابوس بالنسبة إلى الشابين. «في العراق كنا نعيش بين أهلنا، جاءت الحرب ودمرت المنزل. لم اعرف كيف تركت العراق، ولن أعود قبل أن يستتب الأمن، فالحياة في الفقر خير من الموت بصاروخ أميركي... أو الاعتقال في أبو غريب»، يقول احدهما ممازحا.
الغرفة المقابلة استأجرها حديثا شاب وزوجته. ويقول: «تزوجنا قبل شهرين، ولا نملك ثمن شقة. أجرة هذه الغرفة مع المطبخ والحمام رخيصة. تكفي لشخصين من دون أولاد». غرفة الزوجين مرتبة وتتمتع بمواصفات السكن الصحي، لكن مشكلتها الوحيدة أن «الشبان الذين يسكنون في المقابل يدخلون ويخرجون طوال الليل، مثيرين الريبة في قلوب الجيران».
الكفيل أو صاحب العمل، عنصر أساس في هذا الوضع. الجارة القديمة تعرف انه استأجر الغرفة منذ سنوات طويلة ليسكن بها أربعة من عماله، لكنها اليوم مستاءة من عدم اهتمامه بهم والأهم من ذلك كله «عدم تأمين المياه لهم».
«صاحب العمل قد لا يكون مدركا الوضع»، كان هذا الدافع غير المنطقي هو السبب الأساس لزيارة المطعم حيث يعمل الشبان، فضلا عن الرغبة في التحدث إلى الشبان الآخرين. «المطعم لا يبعد عن غرفة السكن الجماعي كثيرا»، قالت الجارة وهي تصف الطريق المؤدي إليه.
«المطعم اقفل منذ اكثر من خمس سنوات، وصاحبه هاجر إلى أميركا»، قال صاحب المحل المجاور.
No comments:
Post a Comment