القبلة أغضبت الأم فقالت :« الفلسطيني ما عندو هالحركات »! . « باب الشمس » أمام سكان « شاتيلا » في ذكرى المجزرة
منال أبو عبس
Al-Hayat (932 كلمة)
تاريخ النشر 18 سبتمبر 2004
منال أبو عبس
Al-Hayat (932 كلمة)
تاريخ النشر 18 سبتمبر 2004
«عيب... استحوا... إحنا رايحين نحكي عن فلسطين ولا عن أميركا»، تقول الأم الفلسطينية. تنتفض من مقعدها. وتغادر المكان مستنكرة مشهد القبلة في فيلم «باب الشمس». وفيلم يسري نصر الله، المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب الياس خوري، عرض في المدفن الجماعي لضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا في بيروت، مساء أول من أمس، أي 22 سنة بالضبط بعد وقوع المجزرة... ما يعطي أهمية استثنائية لمبادرة السينمائي المصري الذي حضر العرض برفقة عدد من ممثليه. والجدير بالذكر أن احداث الفيلم (ورواية خوري الذي شارك المخرج والسينمائي محمد سويد في كتابة السيناريو) تنطلق من هذا المكان، وبعض المشاهد صورت فعلا في المخيم.
الأم الفلسطينية التي أغضبتها القبلة، تقطن في مكان يبدو قريبا من المدفن. ما ان شاهدت الكراسي البيض ترصف فوق الساحة الجرداء، حتى ارتدت العباءة السوداء والمنديل الأبيض. تأبطت ذراع جارتها. واحتلت قبل العرض بساعة ونصف، مكانا في مقدمة الحضور.
الأم الفلسطينية كانت صغيرة حين ارتكبت المجزرة. كانت تقيم في أحد مخيمات البقاع. لكنها تعرف تفاصيل صغيرة ودقيقة عنها، ترويها لأحفادها بين حين وآخر. أولادها بدورهم لا يعرفون عن فلسطين إلا صورا قليلة في الذاكرة وروايات كثيرة من «الحاجات» الفلسطينيات.
«قالوا لي ما تتفرجي.. ما بقدر... بدي أشوف شو عم يصير بالدنيا»... حاول الأبناء تجنيب أمهم حضور الفيلم. كانوا يخشون رد فعلها على قسوة المشاهد التي تطالعنا عادة في كل ما يصور عن فلسطين. أولاد الحاجة الذين استنكروا قدومها، هم أنفسهم حثوا أطفالهم على مشاهدة الفيلم، كي «يتعرفوا الى تاريخهم، الى معاناة عمرها عقود».
هناك، خارج المدفن، علقت لافتة وحيدة تعلن عن الفيلم، وثلاث صور تختصر المعاناة. صور المجزرة عنصر أساسي في هذا المكان، صور امرأة تتفحص جثامين منتفخة، تشد شعرها وقد سقط عنه المنديل. في الصورة المعلقة لا تقول المرأة شيئا. تترك للناظرين حرية التخمين. حرية أن يعودوا بالذاكرة إلى 17 أيلول (سبتمبر) 1982، فيسمعوها تردد «الله اكبر يا عرب». الصورة قوية، تلفت انتباه بضعة صحافيين أجانب أتوا لمشاهدة الفيلم. ينظرون إليها مرارا ويصورونها. تغطي وجوههم تعابير حزن يبدو صادقا، يداعبون الأطفال الفلسطينيين قليلا ويجلسون في انتظار العرض.
«فردية» المعاناة
«في الفيلم سنرى الفلسطيني يعيش قصة حب، للمرة الأولى نراه بمعزل عن قضيته»، يقول المخرج يسري نصر الله محاولا تسليط الضوء على البعد «الفردي» لمعاناة شخصيته الأساسية. ويغيب نصرالله الرموز والشعارات عن فيلمه. هو يريد لفلسطينيي فيلمه ألا يكونوا الضحية، بل ان يكونوا أناسا عاديين. يقطع الحديث مع المخرج مرور شاب ثلاثيني، يرتدي كوفية فلسطينية، وسترة من قماش الكوفية نفسه، فيما تتدلى من عنقه أيقونة عليها علم فلسطين.
الأيقونة على صدر الشاب تلمع. على عكس العلم المهترئ المعلق فوق بوابة المدفن. الشاب الغاطس في الرموز حتى أخمص قدميه، ليس بالضبط من صوره المخرج في فيلمه. ولكن، هل فعلا يمكننا النظر إلى الفلسطيني بمعزل عن القضية؟
في زاوية أخرى من المدفن، تنتفض أم حسن عن كرسيها. تومئ بإصرار إلى مصور أجنبي، يتقدم نحوها بسرعة. تحضنه بشدة فيقبلها على جبينها. أم حسن عجوز فلسطينية عايشت التهجير. المصور غربي أجرى عنها ريبورتاجا صحافيا. المصور لم ير في أم حسن غير قضيتها.
عند السابعة والنصف يبدأ الفيلم. المشهد الأول منه يتضمن قبلة حميمة. تدير الأم الفلسطينية وجارتها رأسيهما ناحية شجرة الزيتون الوحيدة وسط المكان. يطلق الشبان صفارات التأييد للبطل، فيما يكتفي الرجال بنظرة وقورة تحد من البلبلة التي تسود المكان. لا يدوم المشهد طويلا، لتنتقل الكاميرا إلى صور من فلسطين قبل نكبة 1948.
«إذا تركت الكرسي بعد مرة ورحت لبرا بدبحك»، يقول الوالد لإبنه (5 سنوات). الوالد يريد لإبنه أن يتعرف الى تفاصيل المعاناة. «الحرب»، «التهجير»، «الشتات» و«العودة»، عبارات سمعها الولد كثيرا، ويعتقد الوالد انه سيراها في كل مشهد من الفيلم. «يا ريت بقينا هناك ومتنا بأرضنا»، يعترف الوالد على مسمع الصغير.
في المدفن الجماعي جلس عشرات الفلسطينيين يتابعون الجزء الأول فقط من فيلم يسري نصرالله، ومدته ساعتان ونصف الساعة. فيلم ملحمي الإيقاع يحكي قصتهم. يشاهدون صورا تشبه كلا منهم. يشاهدون تهجيرهم، هربهم إلى لبنان وعيشهم في المخيمات...
وحدها صورة الشاب يقبل بطن زوجته الحامل أغضبت الأم الفلسطينية. هي تعتبر أن «الفلسطيني ما عنده هالحركات»، وان الفدائي والمهجر والمقاتل، لا يحيا لهدف آخر غير القضية. ترفض متابعة فصل آخر من فصول الفيلم الذي يروي جانبا آخر من مأساة الفلسطينيين. ترفض مشاهد تحل فيها القبلة مكان الدم والدمار. هي أم فلسطينية ترفض أن تصور فلسطين بغير الصورة المحفورة في ذاكرتها. ترفض أن تمنح أجيالا بكاملها نعمة الحياة والحب لهدف آخر غير الموت في سبيل القضية.
No comments:
Post a Comment