أبناء العاصمة يصرخون : بيروت ليست تل أبيب
منال أبو عبس
Al-Hayat (1,374 كلمة)
تاريخ النشر 16 مايو 2008
في محلة الضناوي في قلب بيروت، ترتفع لافتة كبيرة وحديثة، تحمل من الجانبين صورتي رئيس المجلس النيابي نبيه بري والأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله تتوسطهما نجمة داود. وفوق النجمة مباشرة الآية القرآنية الكريمة: »وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة«.
قبل أسبوع واحد من اليوم كانت ترتفع مكان اللافتة الكبيرة، صورة للإمام المغيب موسى الصدر، خلفه راية لـ?»حركة أمل«، من الواضح أنها استبدلت بأخرى بعد انتفاضة المعارضة في شوارع بيروت لتطبع الأحداث الأخيرة بطابع التصدي لإسرائيل.
إلى اليمين من اللافتة، كتب بخط عريض على الحائط، عبارة: »الحرب ليست ضد أهلنا السنة. بل ضد »القوات« و«الاشتراكيين« و?»المستقبل«، وبتوقيع: »من يريد أن يحاسبنا، أهلا وسهلا«.
في مناطق »الصراع« الأخرى: كورنيش المزرعة وبربور ورأس النبع والطريق الجديدة ومار الياس، يروي كثر عن أيام يتمنون ألا تعود. ويعكس وجوم وجوههم حنقا وخيبة. إذ بحسب عباراتهم: »ما حصل أحدث جرحا من الصعب جدا أن يندمل«.
هكذا تنظر بيروت الى الأحداث التي ضربت قلبها. تتحول شوارعها إلى غابة من رايات »حزب الله« وحركة »أمل« و?»القومي السوري الاجتماعي« وصور قادتهم. وتظهر خجولة في بعض مناطقها صور الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونجله النائب سعد الحريري ورايات »تيار المستقبل«، فيما تغيب كليا رايات »التيار الوطني الحر«.
في مار الياس تروى حكايات كثيرة عن يوم الخميس الأسود وما سبقه وما تلاه. يومها كانت انطوانيت تقف على شرفة منزلها في الطبقة الرابعة، وإذا بجندي من الجيش اللبناني يصرخ فيها أن تدخل إلى البيت. تسأله عن الذي يحصل، فلا يجيب. تدخل انطوانيت. ويغطي الرصاص صوت الصراخ. تبيت ليلتها في الحمام، ومن هناك تتصل بابنها كل 5 دقائق. ترجوه ألا يعود إلى بيته، وأن ينام عند خطيبته في »الشرقية«. فبالنسبة اليها »هناك الوضع أكثر أمانا«. في المبنى المجاور من مبنى انطوانيت، تقطن أم محمد. بيتها في الطبقة الأولى، وتقول إنها سمعت أحد العسكريين يصرخ: »وصلوا«، أي المسلحون، قبل أن يختفي كل الجنود، وتترك الساحة للمسلحين الملثمين. يصرخ أحدهم ووجهه إلى الأعلى: »من كان في منزله صورة للحريري، فليحضرها إلى هنا ويمزقها أمام أعيننا، وما لم يفعل ذلك فلن نعفو عنه«.
تتشابه روايتا السيدتين عن المرحلة التي تلت انسحاب الجيش: »ينقسم المسلحون إلى فرق يتألف كل منها من اثنين أو ثلاثة شبان. بعضهم يتوسطون الشوارع ويطلقون النار في الهواء وفي اتجاه شرفات الأبنية، وبعضهم يدخلون إلى نواطير الأبنية ويسألونهم ما إذا كان في المبنى شبان من »تيار المستقبل«. النواطير في الأغلب ينفون، غير أن المسلحين يجدون ضالتهم في الأسماء المسجلة على الانترفون. من هناك يختارون الشقق »الواجب تفتيشها والتحقيق مع قاطنيها«.
حكاية النواطير مع المسلحين لم تقف عند حد السؤال والإجابة عنه. كثر منهم تعرضوا للشتم والإهانة. وكثر أيضا، اختفت نقودهم بعد تفتيش المسلحين للحقائب، بحسب روايات النواطير وأبناء المنطقة.
في الطريق الجديدة الرواية مختلفة. هنا »قلعة الصمود« بالنسبة إلى »تيار المستقبل«. وعلى مداخلها ومتفرعاتها ما زالت تلوح صور الحريري وعبارات: أنت زعيمنا. وتصل حبال الشرائط الزرق بين الشرفات. غير أن الجديد هنا صورة لمن سقطوا خلال التشييع الأسبوع الماضي، مكتوب عليها: »مجزرة »حزب الله« وحركة »أمل«. وبجانبها لافتة كبيرة: »أهل بيروت لا يوجهون سلاحهم إلا إلى العدو الصهيوني«.
يختصر تاجر في الطريق ما حصل: »حاول مسلحون من حركة »أمل« الدخول إلى المنطقة من ناحية جامع عبد الناصر. قابلهم من الناحية الأخرى مسلحو »حزب الله«. تصدى لهم شباب المنطقة، فلم يتمكن المسلحون من الدخول. في اليوم التالي، دخل الجيش«.
إلى جانب رواية التاجر، رواية على لسان شابة من المنطقة. تقول إنها رأت الشبان يبكون متوسلين وسطاء أن يخبروا سعد الحريري أن يمدهم بالسلاح. هؤلاء بنظرها ما كانوا ليسكتوا عن استباحة بيروت. غير أن السلاح لم يصل. »وقف بعضهم وسط الطريق وراح يشتم. شتموا 14 آذار وسعد الحريري الذي لم يسلحهم. وصاروا يشترون رصاصة الكلاشينكوف بدولار ونصف الدولار«.
تشيـــر سيدة إلى أحد الأبنية التـــي تعرضت لرصاص المسلحين. تقول إن بيتها في احدى طبقاته، وإنه تعرض لضرر كبير. توجه كلامها إلى فريق المعارضة، غامزة من قناة »حزب الله«، وتقول: »من يريد أن يحمي سلاحه، فليرحل بعيدا من بيروت. نحن لا نريده ولا نريد سلاحه، فليرحل إلى الصحراء وليقاتل من يشاء«. وتستدرك: »لماذا يقاتلنا، هل وجهنا سلاحنا صوبه يوما؟ من أعطاه حق القتل والتدمير؟ هل صار أهل بيروت هم الإسرائيليون بنظره؟ وبيروت هل صارت تل أبيب؟ حرام عليه. نحن وقفنا في وجه إسرائيل قبل أن يظهر هو وحزبه. فليرحل عنا«. الحنق على المقاومة يقابله حنق كبير على الجيش هنا. وأقل ما سمعناه في هذا الإطار كان: »الجيش تركنا تحت رحمة المسلحين وقت المعارك«.
على تقاطع مسجد جامع عبدالناصر في اتجاه بربور، تتكثف رايات حركة »أمل« وصور بري وعبارات الولاء للمعارضة والتهديد لإسرائيل ولرئيس الحكومة فؤاد السنيورة. على مقربة من المدخل يقف شاب مع جهاز اتصال لا سلكي. الشاب، لم يبلغ العشرين، مقاتل من حركة »أمل«، كما يقول. ويروي الأحداث التي عاشها لحظة بلحظة: »التطورات بدأت على اثر تظاهرة الأربعاء. »المستقبل« رموا قنبلة على تظاهرة في كورنيش المزرعة وأصيب 5 بجروح. بدأ التشنج، وبعدما تحدث الزعماء وبدأ إطلاق الرصاص«. المنطقة شهدت بحسب الشاب معارك قوية دامت منذ السادسة مساء الخميس حتى السابعـــة صباح الجمعة. نسأله عن الحواجـــز والسلاح ورأيه في قتال ابن البلد، فيجــيب: »لم نقم حواجز هوية ولم نحتجز أحدا. لم يمدنا أحد بالسلاح، هو موجود دائما في المراكز. وأنا لم أشارك في إطلاق النار«. وإذا طلب منك ان تفعل؟ يجيب: »عندها لكل حادث حديث«.
يستفز السؤال رفيق الشاب، فيقول: »لا مشكلة عندي من أن أطلق النار على أحدهم. أنت لا تعرفينهم. هؤلاء باعونا لأميركا وإسرائيل، ويتعرضون لسلاح المقاومة. أنا مستعد لأن أقتل فداء للمشروع (شبكة الاتصالات)«.
من بربور إلى راس النبع، صور كثيرة للحريري وقد مزقت. وفي راس النبع ألصقت فوق بعضها صور للرئيس السوري بشار الأسد والرئيس اللبناني السابق اميل لحود. شارع محمد الحوت الذي شهد الاشتباكات الأعنف، مقفل أمام السيارات بأمر الجيش. على مدخله سيارات كثيرة مصابة باعيره نارية وزجاج متناثر على الأرض. يروي أحد أبناء المنطقة الأحداث الأخيرة، فيقول: »فجأة ظهروا على المداخل مدججين بالأسلحة«. يشير إلى أبنية مصابة بالرصاص وبقاذفات »ار بي جي«. ويضيف: »هنا كان مكتب تابع لتيار المستقبل. عندما هاجمنا المسلحون فر الحراس الأربعة الموجودون في المكتب، فاعتقلهم عناصر حركة »أمل« في نهاية الشارع. أطلق المسلحون الرصاص في الهواء ولم يتصدى لهم أحد. جالوا الطرق يشتمون الرجال، ويقولون إذا في رجال ينزلوا. جاري في البناية المقابلة رأيته يحمل سلاحا ويطلق النار على أبنية جيرانه«. وأضاف: »رأيتهم يطلقون النار على الجامع، هل كانوا يحررون فلسطين من الجامع؟ وعلى مدخل أحد الأبنية كتبوا: احذروا أيها السنة، »أمل« قادمة. هذا عيب«.
المنطقة صارت خالية من السيدات والبنات. يقول الراوي: »كانوا يتوعدون نساءنا، فأجليناهن إلى خارج بيروت«. يستطرد الراوي في الحديث عن أبناء المنطقة ومشاعر السخط والغضب التي تعتريهم: »دخلوا إلينا ليحاربوا إسرائيل في مناطقنا, إسرائيل لم تفعل بنا ما فعلوه هم. صحيح أن السياسة بلا دين، لكن هم أيضا بلا دين«.
يتحدث عن المسلحين اليوم، قائلا: »يجتازون حاجز الجيش ومسدساتهم على خصورهم، فلا يوجه الجنود إليهم أي كلمة اعتراض. وعند الظهر تصلهم وجبات الطعام من مطعم في الضاحية. كأنهم كانوا يقاتلون إسرائيل وتجب مكافأتهم«. يستفيض في الكلام عن »جبروت« المسلحين، ويروي حكاية محام ووالدته من آل طباره »بينما كانا يجتازان الشارع للهرب من المنطقة، أطلق المسلحون قذيفة »آر بي جي« في اتجاههم، فقضيا على الفور«، سائلا: »ما ذنب هذا الشاب ووالدته. هل كانت الحاجة ابنة الـ78 سنة تستهدف مشروع المقاومة وهي هاربة من المسلحين«. ويختم حديثه بالقول: »الحكاية لن تنتهي هنا. بالقلب ما رح تخلص«، ويضيف: »ديننا لا يسمح أن نكون اتباع اليهود أو الأميركيين أو نتعامل معهم، لكن ديننا أيضا لا يسمح لنا أن نوجه سلاحنا إلى صدور المسلمين. زرعوا في قلوبنا الكره والحقد وحرمونا النفس الحلو«.
في الزيدانية، لا تبدو الصورة افضل حالا. يصب صاحب أحد المحال التجارية جام غضبه على الجيش، متهما الجنود بأنهم »كانوا ينتظرون المسلحين خارج المكاتب إلى أن يفرغوا من التحقيق مع شبابنا وضربهم، بعدها كان الجيش يتسلمهم. ضاعت ثقتنا بالجيش«. يشير بإصبعه إلى زاوية حيث يجلس جنود من الجيش تحت راية لـ»حركة أمل«، ويقول: »منذ متى كان الجيش يرضى بأن يجلس عناصره تحت راية ميليشيا«.
بحسب التاجر، الأحداث التي مرت على الزيدانية، تشبه ما مر على مار الياس وراس النبع. غير أن خلاصته منها تبدو أكثر وضوحا: »قبل الأحداث كنت مع »حزب الله« حتى الموت. اليوم لم اعد أثق به. كان قائدهم يقول إنه لن يقوم بانقلاب ولن يوجه سلاحه إلى الداخل، وها هو فعلها. انظر إلى الحزب فلا أراه إلا ميليشيا مثل غيره، وإن كان اكثر قوة من الباقين«.
لا يبدو التاجر متفائلا بالمرحلة المقبلة على رغم الأنباء عن اتفاق وشيك، وغياب مظاهر الاستفزاز. ويقول: »مجرد وجود راياتهم مرفوعة في شوارعنا هو تحد لنا. كما أن سياراتهم تجوب شوارعنا كل يوم احتفالا بالنصر، كأنهم غزوا تل أبيب وليس بيروت«. ويشير إلى شجرة أمام محله، قائلا: »قطعوا أشجارنا وزرعوا عليها راياتهم. ألم ينتقدوا إسرائيل لقطعها أشجار الزيتون في فلسطين؟ الذي فعلوه ببيروت اكثر قسوة، لو يدركون«.
No comments:
Post a Comment