Friday, May 23, 2008

الحياة تتابع جلسة في قضية يوغوسلافيا السابقة

«الحياة» تتابع جلسة في قضية يوغوسلافيا السابقة
تأهيل مبنى المحكمة الدولية في لاهاي يستغرق سنة
... لكن الأعمال لن تعيق سير المحاكمة


منال أبو عبس
Al-Hayat (1,666 كلمة)
تاريخ النشر 23 مايو 2008

لا تشير الإجراءات الأمنية خارج المقر السابق للاستخبارات الهولندية في بلدة ليدسكندام في الضاحية الشمالية لمدينة لاهاي، إلى أن حدثا ذا أهمية سيحصل هناك. فلا شيء في المبنى الأصفر والرمادي الواقع في ضاحية سكنية خضراء، يدل على اختياره مقرا للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ومحاكمة مرتكبي سلسلة اغتيالات دفعت البلد الصغير إلى حافة الهاوية.

مقر المحكمة العتيد لا يبعد إلا دقائق من محطة القطار. وللوصول إليه والتجول في بعض أرجائه، لن يجد الزائر عوازل كثيرة. إذ يمكن الاقتراب كثيرا من المبنى. ويمكن تفحص بوابة الحديد التي كانت تستخدم للتفتيش، ومشاهدة البحيرات التي تحيط به، فتجعل شكله أقرب إلى شكل القصور القديمة، محاطا ببنايات سكنية كثيرة.

هارولد شاب من اصل مغربي، يقطن في مبنى قريب من مبنى المحكمة، يقول: إنه عرف منذ فترة أن هذا المبنى سيشهد أعمال تأهيل وورشة أشغال ليصير مقرا للمحكمة الخاصة بلبنان، غير أنه لا يبدي انزعاجا من هذا الأمر. الإجراءات الأمنية التي يشير إلى أنها ستزعج بعض جيرانه، لا تؤثر سلبا عليه، فـ »الأمن سيتعزز أكثر في الأرجاء، وسيصير بمقدرونا أن نترك سياراتنا مفتوحة«، يقولها بسخرية.

لكن، ما هي الأسباب التي جعلت المحكمة الخاصة بلبنان تقام في جوار هارولد؟

يعدد مصدر من الخارجية الهولندية الخطوات التي جعلت القرار يرسو على هذا المبنى، والتي بدأت بطلب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من لاهاي درس إمكان أن تكون المحكمة على أراضيها. ويقول: »الحكومة الهولندية تعاطت بإيجابية، لكن لم تكن عندنا مبان فارغة تتسع لـ400 إلى 500 موظف في المحكمة. غير أننا قمنا بجردة على 18 مكانا محتملا واخترنا من بينها واحدا«.

يتحدث المصدر عن الخطوات التي تلت اختيار المقر، ومنها »قرارات كان علينا أن نتخذها، خاصة بكيفية تقسيم النفقات وإجراء المفاوضات مع الأمم المتحدة للوصول إلى اتفاق في شأن المحكمة«، ويضيف: »قمنا بذلك، ووافقنا على أن تكون المساهمة الهولندية تقدمة المبنى من دون إيجار لمدة لا تتجاوز ست سنوات«، أي بزيادة ثلاث سنوات كضمانة مسبقة على المدة التي حددها مجلس الأمن للمحكمة، مع الإشارة إلى أن إيجار المبنى يبلغ، بحسب المصدر 3.4 مليون يورو سنويا.

ويوضح المصدر أن »الحكومة الهولندية ستتولى النفقات والمهمات المتعلقة بالأمن خارج المبنى، ما يعني أيضا نقل المشتبه بهم والشهود والقضاة والعاملين وحمايتهم وكذلك أمن منازل الموظفين«.

وعن الخطوات المقبلة، يقول المصدر: »المبنى في حاجة إلى ترميم، وإلى بناء قاعة للمحكمة وزنازين لاحتجاز المعتقلين. وهذه الإصلاحات ستستغرق سنة كاملة، وهي لم تبدأ بعد، ونتوقع أن تبدأ خلال وقت قريب«، في انتظار أن يتخذ »ممثلون عن الدول المانحة (منها لبنان وفرنسا وأميركا وبريطانيا وهولندا) القرارات النهائية في شأن المحكمة« وتوقع أن يتم ذلك خلال أيام، وبعدها تنطلق عملية التأهيل، مؤكدا أن عملية التأهيل لن تعيق سير المحكمة إذ »أن عملية التأهيل ستستغرق سنة، وخلال هذه الفترة يمكن للموظفين ممارسة عملهم. ونتوقع أن يصل المسجل أول حزيران (يونيو) المقبل، وان يجلب معه عددا من الموظفين الأساسيين ويواصل بناء هيئة المحكمة«. ويضيف: »نتوقع في نهاية العام أن يكون هناك مئة موظف في المبنى. وقبل أيار (مايو) المقبل ستكون قاعة المحكمة جاهزة«.

وعن الإجراءات الرسمية، يقول: »بما أن الاتفاق بمثابة المعاهدة ينبغي أن يقرها البرلمان، وهذا ما ننتظره، لكن عمليا الاتفاق دخل حيز التنفيذ«.

ولا ينفي المصدر المخاوف من حصول مشاكل أمنية، معتبرا أنه »لا يمكن تجاهل وجود هذه المخاطر مع تشكيل محاكم كهذه، لكن لا بد من معالجتها. فالمسؤولون الأمنيون يعملون على ذلك، ويعدون الخطط للتأكد من انه لن يكون هناك مخاطر أمنية نحن في غنى عنها«.

ويضيف أن هولندا لن تعتمد على خبراء دوليين في الأمن، لأنه »إذا كانت هولندا ستتولى الأمن، فمن الأفضل عدم وجود طرف خارجي«، مشيرا إلى أن بلاده لم تقدر »التكلفة المادية للأمن، فهي رهن بالمتغيرات. والمؤسسات الأمنية هي التي ستقدر ما ينبغي حمايته من منازل قضاة أو موظفين وغيرهم«.

المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا

لا يمكن تمييز مبنى »المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة« عن غيره من المباني الرسمية في لاهاي. الإجراءات الأمنية المحيطة به خفية تماما، ولا تشبه تلك المتبعة في الدول العربية، ولبنان تحديدا. فقط علم أزرق للأمم المتحدة ولافتة عليها اسم المحكمة، لا يكفيان بالطبع لإرشاد المار إلى أن حدثا غير عادي يحصل هناك.

تقود المساحة الضيقة بمحاذاة الحديقة الخضراء الواسعة ونافورة المياه فيها، إلى بوابة حديد مخصصة لعبور شخص واحد. أمام البوابة يقف أمنيون ثلاثة بثياب موحدة. النقطة هذه ستكون المصفاة الأولى لكل ما لدى الزائر من معادن، حتى الحزام والهاتف الخليوي وجهاز الكومبيوتر تتجمع في صندوق بلاستيك. جواز السفر أو بطاقات الهوية لحملة الجنسية الهولندية أيضا يجب تركها هنا، لتستبدل بها بطاقة كرتون عليها كلمة: زائر.

في هذه المرحلة، تكون انتهت مهمة الرجال الثلاثة خارج المبنى. ويأتي دور آخرين موزعين بين حرس على خزانات خشب لحفظ حقائب الزائرين، وبين أشخاص يديرون بروية عملية التفتيش الدقيق قبل السماح بمرور الزائر تحت قوس آلي إلى قاعة الاستقبال داخل المحكمة.

في قاعة الاستقبال الفسيحة في مبنى المحكمة، تتغير الصورة. اللون الأبيض للجدران، والوجوه الباسمة للموظفين تبعث الإحساس بالأمان الذي يفتقده الزائر في غرفة الحرس. في هذه القاعة ركن صغير يبدو أنه للانتظار، ومكتب لاستقبال الزائرين وتوجيههم. وراء المكتب ساعتان الأولى بتوقيت نيويورك والثانية بتوقيت لاهاي، وعلى مقربة منهما أربع شاشات تلفزيون لنقل المجريات من داخل غرفة المحاكمة. عند العاشرة والربع ظهرا، لم يكن ثمة محاكمة في القاعة، والشاشات تبث عبارة: »المحكمة في فرصة«، باستثناء واحدة تحمل شعار »ICTY« أي »المركز الدولي للعدالة الانتقالية« تبث مشاهد قديمة عن المحاكمة. ويبدو في الصورة وجه مموه نعرف لاحقا أنه لأحد الشهود.

في الطابق الأول من المبنى غرف عدة للاجتماعات. في واحدة منها يطلعنا مصدر في الاستشارات السياسية للمحكمة، على تفاصيل ما يجري هناك، ويقول إن »أي محكمة ستنشأ حديثا، من الطبيعي أن تستفيد من تجربة محكمة يوغوسلافيا« التي نشأت بقرار عن مجلس الأمن عام 1993، »حتما سيكون هناك نقاط اختلاف، لكن أيضا سنجد تشابها«.

ويروي مصدر آخر على صلة بعمل المحكمة، أن ما يتذكره العالم عن هذه المحكمة هو »الأحداث التي نشأت على أثرها عام 1991 واعمال الخطف والقتل والقصف والتطهير العرقي والاغتصاب وفصل النساء عن الرجال والتأسيس لمراكز اعتقال واستخدام المدنيين لتنظيف الحقول من الألغام، والتي رافقت النزاعات بين القوات الكرواتية التي أرادت أن تعبر عن استقلاليتها وبين بعض عناصر جيش كرواتيا الصرب الذين حاولوا منعهم«.

ويذكر المصدر أن »قرار تأسيس المحكمة ساهم في وضع حد لهذه الحرب، غير أن الأطراف المتقاتلين لم يأخذوه على محمل الجد في الفترة الأولى«، وأن »المحكمة تأسست بداية بعدد محدود من الموظفين. واستغرقت 18 شهرا حتى إصدار أول اتهام. ولم تكن الاتهامات تطال العقول المدبرة التي مولت الجرائم وسهلتها، بل طالت بعض أعضاء الشرطة في اسفل الهرم. وهذا الوضع دفع الأسرة الدولية إلى الإصرار على وجود اتهامات ذات قيمة«.

عام 1995 انتهت الحرب، و«كان على المحكمة أن تناضل لتضمن عدم الإطاحة بها في إطار عملية السلام«، يضيف المصدر، لكن: »لحسن الحظ، القانون الدولي (الذي يعمل على اساسه في هذه المحكمة) لم يكن ينص على العفو العام، ما أتاح للمحكمة أن تتابع عملها. وبعد ثلاث سنوات، تمكنت من إرسال محققين إلى عدد من الدول«.

اليوم ينظر المصدر بإيجابية تجاه المحكمة، من دون أن ينكر العقبات الكثيرة التي واجهتها، والتي يتوقع أن تواجه محاكم أخرى ستتشكل بعدها: »لم يدعموا عملنا، واستخدموا نفوذهم الكبير لمنع التحقيقات ووصول المعلومات والشهود. كما بثوا الدعايات العدائية تجاه المحكمة. وادعوا أننا لسنا حيادين«، مؤكدا أن »السياسيين سيحاولون الضغط تعبيرا عن الانزعاج من وجود هيئة قضائية مستقلة عنهم«.

وعن المشاكل التي يمكن أن تواجه الشهود داخل المحكمة، يقول المصدر: »الشهود في العادة ليسوا مستعدين للإدلاء بشهاداتهم ما لم نتخذ إجراءات لحمايتهم. نحن في العادة نحجب وجوههم عن الكاميرا والصحافيين وأحيانا نعمد إلى تمويه الصوت«، ويوضح أن »الإجراءات الوقائية تطال أيضا طرق البث، حيث تزود وسائل الإعلام بشرائط من الكاميرا المثبتة في داخل قاعة المحكمة، وبفارق زمني صغير، يسمح بحذف العبارات التي يمكن أن يتلفظ بها أحدهم داخل القاعة وتؤدي إلى معرفة هوية الشاهد«.

ويضيف أنه »في بعض الأحيان ينقل الشهود إلى دول أخرى تتولى حمايتهم، أما إذا كانوا من المجموعة الأساســـية فتحميهم الدولة هنا«، مشددا على دور المنظمات الدولية والمجتمع الدولي اللذين من دونهما »لن تتمكن المحكمة من القيام بعملها مهما كانت طبيعتها«.

وعن المحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بلبنان، يولي المصدر الحكومة اللبنانية مسؤولية كبيرة في ضمان تنفيذ قرارات المحكمة، ويقول: »على الحكومة اللبنانية أن تستخدم كل الآليات التي بمتناولها لضمان تنفيذ قرارات المحكمة. فإذا استدعت المحكمة شخصية سياسية أو عسكرية أو رسمية على هذه الحكومة أن تضمن تسليمها أينما كانت على أراضيها. وفي لبنان هذا ينطوي على تحد كبير«.

وعن احتمال تهرب الشهود من المثول أمام المحكمة، يجيب المصدر: »المعروف أن بعضهم يرفض المثول أمام المحكمة، والنتيجة هنا كانت صدور قرار اتهامي بحق شخص لعدم استجابته لقرار المحكمة«.

وينفي المصدر ردا على سؤال، »حصول أعمال تعذيب في مراكز الاعتقال التابعة للمحاكم الدولية«، مؤكدا أن »منظمات دولية مثل الصليب الأحمر الدولي وبعض وسائل الإعلام تزور المراكز في شكل مستمر، وبما يؤمن احترام كرامة المحتجزين«، كما يلفت إلى »إجراءات خاصة تتيح للمحتجزين الالتقاء بأقاربهم في أوقات معينة«.

مشاهد من محاكمة شيشل

يتفرع من قاعة الاستقبال درج صغير يقود إلى غرفة تفتيش دقيق جديدة. وتؤدي الغرفة إلى قاعة فيها مقاعد كثيرة خاصة بالصحافيين، يفصلها حائط من الزجاج عن قاعة المحكمة.

الجلسة هنا هي واحدة من جلسات محاكمة رئيس اكبر حزب سياسي في صربيا، وزير الدفاع السابق في مقدونيا فوجيسلاف شيشل. يجلس شيشل المتهم بجرائم حرب بملابس رسمية أنيقة في الجانب الأيسر من القاعة، ويتولى مهمة الدفاع عن نفسه، فلا يبدو في الكراسي الخاصة بالدفاع وراءه أي محام.

المساحة في وسط الغرفة يحتلها في مواجهة الصحافيين تماما، رئيس قلم المحكمة، ووراءه صف من القضاة بلباس المحامين الأسود وشالات حمراء. في الجهة المقابلة لمقاعد القضاة، يجلس الشاهد. ويمنع ستار أسود الصحافيين من رؤيته، في حين يظهر وجهه على شاشة التلفزيون أمامهم مموها وصوته غير واضح، وإن كان كلامه مفهوما«.

يمنع عناصر الحرس الصحافيين من الحديث في الغرفة. فالمحاكمة في منتصفها، وشيشل والشاهد يتبادلان الاتهامات والردود.

يتحدث الشاهد عن أدلة لديه على »استخدام الجيش المدفعية لتدمير فوكافار«، فيجد شيشل الكلام »غير منطقي، إذ أن الشاهد لم ير الضابط، ولا يستطيع تحديد رتبته«.

يعلو صوت شيشل خلال مقاطع من المحاكمة، ويردد في أحيان كثيرة أن »الشاهد يدلي بتحليلات وليس معلومات«. ويقول عبارته الأخيرة قبل مغادرتنا القاعة: »كان يمكن أن أنتحر حين رأيت ما رأيت، لكنني لم افعل ذلك. وسأدافع عن نفسي«.

في قاعة المحكمة، لا يبدو المدعي العام حاضرا. ويقول مصدر من داخل المحكمة: »ليس من الضروري أن يحضر دائما. ففي بعض الأحيان تشهد المحكمة ثلاث محاكمات منفصلة في الوقت نفسه«.

ويضيف أن »كل قضية يكلف بها فريق يقوده شخص محدد، والمحاكمة تجرى في حضور كبير المحامين«.

وعن التهديدات الأمنية للعاملين في المحكمة، يقول: »نحن على بعد مئات الأميال من مكان وقوع الجرائم. وعلى مدى 15 سنة، لم يحصل لأحد منا شيء«.

Thursday, May 22, 2008

نهاية اعتصام عمره 537 يوما

لبنان : الوساطة العربية - 2000 شخص أزالوا الخيم من وسط العاصمة . نهاية اعتصام عمره 537 يوما


منال أبو عبس
Al-Hayat (880 كلمة)
تاريخ النشر 22 مايو 2008
عند الحادية عشرة إلا دقائق قليلة أطلقت كلمة السر من العاصمة القطرية. قدم رئيس المجلس النيابي نبيه بري »هدية لاتفاق الدوحة«، وفيها: »ابتداء من اليوم (أمس) باسم المعارضة يرفع الاعتصام من وسط بيروت«. ولم يمض وقت طويل حتى عاد الدم يسري في شرايين قلب العاصمة.

لا يحتاج المتجول في وسط بيروت قرابة ظهر أمس، إلى جهد كبير ليلاحظ الفرحة المرسومة على الوجوه. الفرحة العارمة هنا لها ما يبررها بالنسبة الى الموجودين، سواء كانوا من مناصري فريق الأكثرية أو المعارضة. فمجرد خروج المعتصمين من الوسط التجاري المقفل منذ عام و172 يوما وعودة المطاعم والملاهي والحياة فيها الى طبيعتها »مكسب للجميع وللمعارضة«. وبحسب أحد المسؤولين الأمنيين للاعتصام »السابق«، فإن »الخروج من هنا كان مطلبنا منذ مدة، لكن لم يكن بإماكننا ان نرحل من دون تحقيق مطالبنا«. اليوم مطالب المعارضة »تحققت«، بحسب المسؤول، و«إزالة الخيم والحواجز الحديد، هي الخطوة الأخيرة قبل مغادرتنا الى بيوتنا«.

أمام المسؤول يحتشد جمع من الصحافيين والمصورين منذ ساعات. تتجه الكاميرات في اتجاه رجال يوضبون خيمة كبيرة من موقف السيارات القريب من جسر فؤاد شهاب. ويفككون الى قطع صغيرة هيكلها الحديد، فيما يختص واحد منهم برفع الأعلام التي صارت ألوانها باهتة، ويلفها برفق فوق بعضها بعضا.

»طبعا مبسوطين ومتفائلين«، يقول، وقد سره إعلان الاتفاق بين القادة اللبنانيين، والذي استمد منه ان »المعارضة حققت مطالبها، ونحن عندما سمعنا كلمة الرئيس (بري) بدأنا بإجراءات التنفيذ«.

عند الثانية عشرة ظهرا، يأتي الأمر بوقف التصوير. »حتى الخامسة، لا داعي لوجود الصحافيين هنا«، يقول المسؤول. فمن وجهة نظره: »لا داعي للانتظار تحت الشمس. الشبان سيرفعون الخيم على مهل، وبعد الظهر يمكن لمن يشاء ان يصور«. قرار منع التصوير يتلقفه بحماسة شاب بسترة عليها شعار »حركة أمل«، فيتولى على عاتقه منع التصوير. وتبدأ سيارات قليلة تتسرب الى قلب الوسط.

دقائق قليلة وينتقل التجمع الصحافي الى الخيمة الكبيرة في ساحة اللعازارية، بناء لتوجهات شبان »الانضباط« بأن »حزب الله« سيعقد مؤتمرا في الساحة. هنا أيضا، التصوير ممنوع، لأسباب يقول أحد الأمنيين من الحزب إنها »لمنع عرقلة الشبان العاملين على فك الخيم«. أما الصحافيون فعليهم التجمع »لنعطيكم شوية ملاحظات، وحتى نتعرف على وسائل الإعلام الموجودة«، يضيف، قبل أن يطلق نداء عبر جهازه اللاسكلي: »أنت الـ101. أرسل كل الصحافيين عندك الى الخيمة الكبيرة«. ينتظر الصحافيون أكثر من ساعة تحت الخيمة الكبيرة من دون ان تلوح بوادر المؤتمر الصحافي في الأفق.

على بعد خطوات مقهى للمعارضة بدأ أصحابه بإزالة الدعائم الحديد التي تثبته بالأرض. يسخر أحدهم من الواقع، ويقول متهكما أمام رفاقه: »غدا سأقطع الطريق هنا احتجاجا على إنهاء الاعتصام. لقد قطعوا مورد رزقي«، فيضحك آخر: »مورد رزقك غير مهم. الأهم هو أننا حققنا مطالبنا. أسقطنا الحكومة واحتفظنا بالسلاح«. على مقربة من الاثنين يبدو رجل غير معني بما يدور من حوله. يجلس على كرسيه محتسيا كوبا من الشاي، وخلفه لافتة: »نحن. نريد حكومة نظيفة«، وعلى مقربة منه مساحة كان أحدهم زرع فيها أنواعا من الخضار.

من موقف اللعازارية هذا كان يدار الاعتصام. في صدر خيمته الكبيرة كانت خريطة لشوارع الوسط ولكل خيمة فيه، بالأرقام والألوان. الخيمة الآن تفرغ من محتوياتها. ويتولى الشبان يعاونهم نجارون وحدادون فك الأخشاب والحديد، فيما يزيل الباقون فرش النوم الإسفنجية وآلات التدفئة والتبريد ولوازم حياة يومية امتدت نحو سنة ونصف سنة.

من هذا الموقف أيضا، يبدو جسر فؤاد شهاب مكتظا بالسيارات والمارة. عليه يقف مراقبون كثر. مواطنون عاديون، ومراسلون لمحطات كثيرة عــربية وأجــنبية مــع سيارات النقل المباشــر. معهم يقف عــناصر مــن الــجيش وقــوى الأمــن يتفرجون على الحدث من بعيد.

يضج موقف السيارات الأقرب الى السراي الحكومية بالصحافيين وسياسيي المعارضة، فيبدو كأنما يعيش احتفالا. يرتفع صوت أغاني المعارضة، فيغطي على صوت عضو كتلة »التحرير والتنمية« النيابية علي بزي يقول: »لا أحد يريد ان ينبش الماضي، على الأقل علينا ان نتعظ من الماضي«.

ويضيف أن »اللبنانيين ينتظرون منا ان نفتح صفحة جديدة. فلنفتح صفحة مشرقة. فليبنوا معا دولة يشعر فيها الجميع بأنهم سعداء«، وأن »اللبناني عنده إصرار على البقاء. في الأيام المقبلة يجب أن يكون عندنا إصرار على إرادة الإعمار والنهوض والازدهار«. إلى جانب بزي يأتي سياسيون آخرون ويجولون في أنحاء المخيم، داعين الى الاتفاق بين اللبنانيين ونسيان الماضي. ومنهم عضو تكتل »التغيير والإصلاح« النيابي نبيل نقولا الذي يحمل مرة جديدة »السلطة مسؤولية التأخير في رفع الاعتصام«.

بين الجميع ينتشر عمال شركة التنظيفات »سوكلين« يرفعون ما تيسر، فيما يواصل الشبان فك الخيم بتأن، وإزالة الأسلاك الشائكة والعوائق الإسمنتية تمهيدا لمرور السيارات الى الوسط. ويؤكد المسؤول الإعلامي في »حزب الله« غسان درويش أن »فريق عمل من ألفي شخص سيواصل العمل حتى فجر الخميس (اليوم) لرفع كل مخلفات الاعتصام«.

الحاجز المؤدي الى شارع المصارف ما زال على حاله. وكعادته يتولى عسكري ومدني من حرس المجلس تفتيش الداخلين. أمس، تلقف أصحاب المحال المقفلة وبعضها منذ بدء الاعتصام - الخبر الجميل. وتحول الوسط الى ورشة تنظيف وإصلاحات لبدء العمل مطلع الأسبوع المقبل.

ويقول موظف في مطعم »انتركوت« وهو واحد من ثلاثة تابعة لمجموعة »بوبس« إن »أعمال التنظيف بدأت منذ ثلاثة أيام. كنا متفائلين بذهاب الزعماء الى الدوحة، واليوم بدأنا بإصلاح الكهرباء وأضرار أخرى«، في حين يتأسف آخر على »الشهداء الذين سقطوا قبل أيام من دون سبب«.

مطعم »سكوزي« أيضا، تحول الى ورشة. ويقول أحد الموظفين فيه إن »الأضرار طاولت البرادات والخشب، لكننا مستعدون لإصلاحها، ونراهن على عودة الحياة الى المنطقة«.

وأمس، عادت الضحكة الى وجوه العاملين هنا. بينهم عامل سوداني يقول إن »وضع البلد تحسن، وبالتالي وضعنا سيتحسن«. لكن، على بعد خطوات من الفرحين بعودة الحياة، ما زالت خيمة تنتصب في حديقة جبران مقابل مبنى »اسكوا«.

الخيمة هذه لن ترفع على رغم أن وجودها سبق نصب اعتصام المعارضة. وفيها ستبقي أمهات المفقودين اللبنانيين في السجون السورية على صور أبنائهم مرفوعة بانتظار خبر جميل من مكان ما يزيد عدد الوجوه الباسمة.

Wednesday, May 21, 2008

محكمة لبنان لن تستمع إلى الشاهد الأول قبل 2010


رئيس الادعاء في محكمة سييراليون: محكمة لبنان
لن تستمع إلى الشاهد الأول قبل 2010


منال أبو عبس
Al-Hayat (642 كلمة)
تاريخ النشر 21 مايو 2008


لا يبدي رئيس قسم الادعاء في محكمة سييراليون المستشار القانوني لوك كوتيه تفاؤلا كبيرا بإمكان مباشرة المحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بلبنان عملها الفعلي قبل عامين من الآن. واستنادا إلى تجربة القانوني الفرنسي- الكندي التي تمتد إلى نحو 20 سنة من العمل على التحقيقات في جرائم الحرب في كندا ورواندا، ثمة خطوات ستلي تشكيل المحكمة ويسهل التنبؤ بها. ويقول: »بحلول كانون الثاني (يناير) 2009، المحكمة ستكون أنشئت. وإذا قلنا أن المتهم الأول سيكون موجودا لديها بحلول شهر آذار (مارس) أو نيسان (أبريل)، فإن الخطوة الأولى للدفاع بحسب اعتقادي ستكون الطعن في اختصاص المحكمة، ما سيؤدي إلى تجميد الإجراءات مدة شهر أو اثنين، للنظر في الاختصاص. ثم يأتي دور الاستئناف«. ويضيف: »أرى أن المحكمة لن تباشر عملها وتستمع إلى الشاهد الأول قبل الوصول إلى قرار محكمة الاستئناف. وذلك لن يتم ذلك قبل سنة من تأسيسها أي بحلول العام 2010«.

وبحسب كوتيه الذي التقته »الحياة« على هامش ورشة عمل نظمتها مؤسسة »فريديريتش ايبرت« و«المركز الدولي للعدالة الانتقالية« في برلين ولاهاي، فإن سير المحكمة لن يتأثر بأي أحداث أو تغيرات في تركيبة الحكومة أو المجلس النيابي اللبناني، فـ«المحكمة أنشئت تبعا لقرار من مجلس الأمن. وهي ستأخذ طريقها إلى التنفيذ بصرف النظر عما يجرى في الداخل«. غير أن إجاباته لا تعكس تطمينات عندما يتعلق الأمر بتسوية محتملة بين سورية وأميركا أو غيرها: »عندها يمكن أن يطرأ تغيير«. »أن يصدر مجلس الأمن قرارا يلغي قراره السابق؟« نسأله، فيجيب: »كل شيء جائز«.

وعلى رغم إصرار كوتيه على عدم توجيه اتهامات، إلا أنه يرى أن »سورية لن تقدم الشهود إلى المحكمة«، وأن الضغط عليها لا يمكن أن يتم إلا من خلال »اللجوء إلى مجلس الأمن«، غير أنه يضيف أن »مجلس الأمن في العادة لا يفرض عقوبات على دول لم تتعاون مع المحكمة«.

وعن تصريحات أشخاص من المعارضة اللبنانية بأنها لن تقدم شهودا للمحكمة، يوضح كوتيه: »من الناحية القانونية لدى المحكمة صلاحية إصدار أمر اعتقال عن المحكمة كشاهد«، معتبرا أنه »قد يكون ضارا للشاهد أن يمتنع عن المجيء للإدلاء بشهادته«.

يتحدث كوتيه بأسف عن الوضع الأمني في لبنان، إذ أنه »أكثر خطورة من بقية الدول التي شهدت محاكم دولية«، لكن من وجهة نظره إليه »الوصول إلى العدالة هذه المرة ضروري من أجل مصلحة البلد«.

وعن الضغوط السياسية على المحكمة، يجيب: »ما من محكمة دولية إلا وتعرضت للضغط السياسي. كلها شكلت لأسباب سياسية. غير أن نظامها الأساسي هو الذي عليه أن يضمن معايير الاستقلالية عن الحياة السياسية. القضاة المحليون عندهم خلفيات وهذا موجود في كل المحاكمات، غير أن القضاة الدوليين سيضمنون حيادية المحاكمة«

وفي شأن حصانة رؤساء الدول، يقول: »إذا حدد النظام الأساسي للمحكمة أن لا حصانة للرؤساء، فهذا يسري حتى على رئيس لبنان، لكن في النظام الأساسي لمحكمة لبنان لا وجود لهذا الأمر. وكونهم لم يذكروا ذلك في النظام الأساسي، فمن المؤكد أن ثمة سببا ما وراء ذلك«.

ويرى كوتيه أن »السمة الأهم لمحكمة لبنان هي أنها دولية، لكنها تتناول أحداثا محلية محددة«، معتبرا أن »حصر الأحداث يزيح عن المدعي العام عبء الضغط السياسي، لأنه طلب منه مسبقا أن ينظر في جرائم محددة«، ولافتا إلى أن موضوع مسؤولية الرئيس عن المرؤوس »يخص المدعي العام الذي عليه أن يحدد من هو المتهم«. ويضيف: »المدعي العام أيضا يحدد من سيحاكمون معا. وهل ستكون المحاكمة لكل شخص على حدة. ومن سينضم إلى من في هذه القضية، وسيتخذ قرار عن الأدلة التي سيقدمها«. ويتطرق كوتيه إلى لجنة التحقيق الدولية، معتبرا أن »التقرير الذي ستقدمه اللجنة مهم جدا للمدعي العام، لكن لا بد من أدلة إضافية مثل شهود ومستندات«، موضحا أن »المعلومات الاستخباراتية ليست أدلة جيدة في المحكمة، لكنها عادة تعطي طريقا للوصول إلى الأدلة الجيدة. فقد يكون هناك تضليل من أجهزة استخبارات وهذا أمر معروف ويحصل. والمدعي العام يعرف ذلك وهو سيشكك في كل معلومة استخباراتية حتى لو كانت من الحكومة اللبنانية«.

ويلفت كوتيه إلى خطوات تميز محكمة لبنان عن المحاكم الأخرى وتسرع من عملها، منها »تعيين قاضي الإجراءات التمهيدية مسبقا، إضافة إلى إنهاء لجنة التحقيق الدولية عملها قبل بدء المحكمة«. ويقول: »هناك تدابير صارمة تحول دون أي تأخير. هذه المحكمة ستكون الأسرع، وهذا لا يعني أنها ستكون غير عادلة«.

Sunday, May 18, 2008

المحكمة أصبحت حقيقة... وقد تعترضها مشاكل

تعارض فرض عقوبات على سورية إذا لم تتعاون
رئيسة لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الألماني:
المحكمة أصبحت حقيقة... وقد تعترضها مشاكل


منال أبو عبس
Al-Hayat (484 كلمة)
تاريخ النشر 18 مايو 2008
< شددت وزيرة العدل الألمانية السابقة ورئيسة لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الألماني هيرتا دوبلر جميلين على أهمية الدور الذي ستلعبه المحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بلبنان، معتبرة أن مجرد مباشرة المحكمة عملها سيعني التقدم »خطوة أو خطوتين في اتجاه تحقيق العدالة« في البلد الذي عرف عددا ملحوظا من الاغتيالات السياسية.

وأعربت جميلين لـ?»الحياة« عن معارضتها فرض عقوبات على سورية في حال رفضت التعاون مع المحكمة وتسليم المطلوبين لديها. وقالت: »هناك الآن علاقات سياسية افضل بين سورية والدول الأوروبية، وربما عدد من الدول الأعضاء في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وهناك أمل كبير في الوصول إلى إقناع سورية بأن التعاون سيكون افضل بالنسبة اليها، من عدم التعاون«، مجددة التأكيد أن »التفاوض والتعاون من أفضل السبل الممكنة، وأنا شخصيا لا أؤمن بالعقوبات«، وأن »المحكمة صارت قوة واقعية وحقيقية في المنطقة، ولن يكون ممكنا التنازل عنها«.

وعن حال الانقسام الداخلي بين الفرقاء السياسيين في لبنان، رأت جميلين أن »المحاكم الدولية لم تكن تعمل عادة في ظل توافق داخلي«، مشيرة إلى أن »المحكمة لا يمكنها أن تحل الخلافات السياسية في لبنان، بل أن تأخذ إجراءات محددة لتردع مرتكبي الجرائم«.

وقللت جميلين من أهمية التشكيك في نزاهة القضاة المشاركين في المحكمة، معتبرة أن »لا يجوز في هذه المرحلة التركيز على البحث عن هويات القضاة وأسمائهم، لأن هذا سيعرض حياتهم للخطر«، ومطمئنة المشككين بأن »ليس هناك أي سبب للتشكيك في نزاهة القضاة. فلا محكمة دولية تختار قضاة غير كفوئين وذوي الثقة«.

وردا على سؤال عن الوضع الأمني في لبنان، قالت جميلين: »قد يكون الوضع خطيرا في لبنان إلى حين مباشرة المحكمة عملها، وما يمكن عمله لتفادي هذه المخاطر هو أن تبدأ المحكمة عملها في أسرع وقت حتى تتوقف هذه المخاطر، في حال وجودها«، رافضة الدخول في تفاصيل الحياة السياسية والانقسام السياسي في لبنان، معتبرة أن »هذا شأن داخلي لبناني، والإجابة متروكة للشعب اللبناني«.

وأكدت جميلين التي التقت عددا من الإعلاميين في إطار زيارة نظمتها مؤسسة »فريدريش ايبرت« و?»المركز الدولي للعدالة الانتقالية« إلى ألمانيا أن »المحكمة قد تساعد في الوصول إلى العدالة«، من دون أن تنفي إمكان مواجهتها عددا من المشاكل«. وقالت: »طبعا هناك مشاكل ستصادفها، كما هناك مهمات عدة يجب على لبنان القيام بها، لكن في النهاية المحكمة تبقى خطوة أساسية في اتجاه الوصول إلى العدالة«.

وأبدت جميلين أسفها للوضع الأمني في لبنان، مؤكدة أن »الشعب متألم من الوضع والانقسام بين الفريقين السياسيين، وهناك الكثير من التدخلات الخارجية«، ومشددة على أن »ربما الوسائل السياسية هي خطوة لمساعدة لبنان، والخطوة الأخرى هي المحكمة«. كما أكدت أن »الاستقرار والسلام من دون عدالة غير ممكنين«.

وعن تأثير كون المحكمة خارج لبنان، أجابت جميلين: »ربما كان من الأفضل لو أن المحاكمة أجريت في لبنان، لكن لم يكن هناك أمل. اعتقد بأن المحاكمة خارج لبنان قد تعطي الأمل بالتقدم خطوة أو اثنتين في اتجاه العدالة«.

ويشار إلى أن جميلين كادت تثير مشكلة بين ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية على أثر تصريحات نقلتها عنها إحدى الصحف عام 2002 وشبهت فيها منهج الرئيس الأميركي جورج بوش السياسي في العراق بسياسات أدولف هتلر. ولم تحل الازمة إلا بعدما أعلن المستشار الألماني آنذاك غيرهارد شرودر أنها قدمت استقالتها.

فؤاد شهاب لإدخال «الكتائب» إلى السلطة

قانون سنه فؤاد شهاب لإدخال «الكتائب» إلى السلطة بعد أحداث 1958

منال أبو عبس

Al-Hayat (1,144 كلمة)

تاريخ النشر 18 مايو 2008

مع انتهاء حال العصيان المدني »المسلح« الذي اجتاحشوارع بيروت والمناطق خلال الأسبوع المنصرم، وانطلاق الحوار بين الفرقاء اللبنانيين في العاصمة القطرية الدوحة، بدأت ملامح مرحلة جديدة ترتسم في الأفق. ولما كان قانون 1960 واحدا من محاور الخلافات »القديمة« بين الفريقين، ما جوهره، وأية تقسيمات للدوائر الانتخابية يستند اليها؟


في 26 نيسان (أبريل) 1960 وضع الرئيس اللبناني فؤاد شهاب قانونا انتخابيا جديدا موضع التنفيذ. فلسفة القانون، الذي عرف لاحقا بقانون الستين، كانت تنبع من وحي العهد الجديد. فلبنان كان خرج للتو من ثورة 1958 الدامية، فيما المتاريس لا تزال مرفوعة فاصلة بين أبنائه. والهدف الأهم لشهاب الذي خلف لتوه الرئيس كميل شمعون، كان قــانون انتــخاب يــضمن حــدا أدنى مــن الاستقرار في الــشارع، رأى شهاب أنه يتحقق عبر إدخال الأطراف الــمتنازعين إلى المؤســســات الدســتورية.




أدخل القانون الجديد تقسيمات إدارية على البلد، قيل إنها لـ »ضرب« خصوم شهاب، أي شمعون وعميد »الكتلة الوطنية« ريمون اده. وأيضا من أجل ضم قوة مسيحية ضاربة إلى صف شهاب، فكان الحلف بين حزب »الكتائب اللبنانية« برئاسة بيار الجميل والشهابية.




بعد انتخابات عام 1960 بدا واضحا أن القانون الجديد أمن الاستقرار على المستوى السياسي وفي الشارع. وأجريت على أساسه أربع دورات انتخابية متتالية في الأعوام: 1960 و1964 و1968 و1972، فكان القانون الانتخابي الوحيد الذي لم يعدل عشية أية انتخابات.




رفع قانون الـ1960 عدد النواب من 66 إلى 99 نائبا، 54 منهم للمسيحيين و45 للمسلمين. وقسم الدوائر الانتخابية إلى 26 دائرة على أساس القضاء، باستثناء حالات عدة، دمج فيها قضاءان معا: حاصبيا ومرجعيون والبقاع الغربي وراشيا وبعلبك والهرمل التي صار كل قضاء منها دائرة انتخابية واحدة.




واعتمدت عواصم المحافظات دوائر انتخابية: بعبدا وطرابلس وزحلة وصيدا، فيما قسمت بيروت إلى ثلاث دوائر انتخابية: أولى تضم الأشرفية والرميل والمدور والصيفي والمرفأ وميناء الحصن، وهي ذات غالبية مسيحية (8 مقاعد: 1 ماروني و1 كاثوليك و1 أرثوذكس و1 إنجيلي و1 أرمن كاثوليك و3 مقاعد للأرمن الأرثوذكس). وثانية تضم زقاق البلاط والباشورة ودار المريسة، وهي ذات غالبية إسلامية سنية وشيعية (3 مقاعد: سني وشيعي وأقليات)، وثالثة تضم رأس بيروت والمزرعة والمصيطبة (5 مقاعد: 4 سني ومقعد أرثوذكسي)، وهي ذات غالبية سنية.




وأدت التقسيمات آنذاك، إلى وصول بيار الجميل إلى البرلمان، عن المقعد الماروني في الدائرة الأولى التي كان يقال إن المعركة الانتخابية فيها مارونية تجرى على أرض أرثوذكسية بأصوات أرمنية وأموال كاثوليكية. كما راعت حليف شهاب الدرزي الزعيم كمال جنبلاط، إذ جمع قانون 1960 الدائرتين الشوفيتين: بعقلين وجون، ودير القمر وشحيم. وكان شمعون قسمهما قبلا ليضعف خصمه جنبلاط.




بين 1960 و2008




تفيد دراسة حديثة لمؤسسة »الدولية للمعلومات« عن قانون 1960، بأنه لا يؤمن المساواة بين المسلمين والمسيحيين ولا يسمح للمسيحيين بانتخاب جميع نوابهم.




وتستند الدراسة إلى أعداد الناخبين المسجلين في الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2005، لتقول إن في حال اعتماد القضاء دائرة انتخابية وفقا لقانون الـ1960، يمكن ملاحظة عدم المساواة بين الناخبين من الناحية الطائفية (المسلمون أكثر عددا من المسيحيين)، كما أنه لا يسمح للمسيحيين باختيار نوابهم جميعا، بل هناك عدد من النواب المسيحيين يختارهم في شكل تام أو يتحكم في اختيارهم الناخب المسلم.




وإلى جانب الدراسة، فإن الأصوات الرافضة لقانون 1960 بصيغته القديمة تبدو مرتفعة في هذه المرحلة. فبالنسبة إلى كثيرين من مطلقي هذه الأصوات، لا يمكن مناقشة قانون الانتخاب العادل بمعزل عن التغييرات الإدارية التي أوجدها اتفاق الطائف.




فهو فرض عام 1989 المناصفة في توزيع المقاعد بين المسلمين والمسيحيين. كما نص على تعيين نواب بدل المتوفين خلال الحرب، ورفع العدد إلى 128 نائبا (من 99 في قانون الـ?1960). كما أشار إلى اعتماد المحافظة دائرة انتخابية (ارتفع عدد المحافظات إلى 9، بعدما كانت 5 في القانون القديم) بعد إعادة النظر بالتقسيمات الإدارية.




ومنذ انتهاء الحرب حتى الأشهر الأولى من العام الحالي، كان قانون الـ?1960 بالنسبة إلى البطريرك نصرالله صفير (المرجعية المارونية الأكثر تأثيرا)، أفضل من قوانين الأعوام 1992 و1996 و2000 التي كشفت الخلل الفعلي في التمثيل المسيحي. غير أن موقف البطريرك لم يدفع الفرقاء السياسيين في السنوات الماضية إلى الأخذ بالقانون القديم.




وقبل أشهر أثار صفير زوبعة في فنجان الحياة السياسية، معلنا تراجعه عن دعم القانون القديم بسبب التغييرات التي طرأت على واقع التقسيمات الإدارية والتغييرات السكانية، من دون أن يخفي تأييده أصغر دائرة ممكنة (الدائرة الفردية).




أطلق الموقف الجديد للبطريرك السجال في شأن القانون الانتخابي المرتقب. وسار الفرقاء في معركة بدت كأنها اختبار مسبق لقدرة كل فريق على جني الثمار السياسية في حال فرض القانون موضوع النقاش. وبما أن الدائرة الانتخابية هي التي تحدد المكاسب السياسية، رسم كل فريق الدائرة الانتخابية التي تناسبه. وأضاف إلى قائمة الخلافات العميقة عنوانا جديدا هو القانون الانتخابي.




فريق المعارضة بأطيافه الكثيرة، ينادي بالأخذ بقانون الـ1960 كما هو، ويرمي بمطلبه في وجه فريق الأكثرية، رافضا مجرد الحديث عن إدخال تعديلات. في حين تضع الأكثرية شرطا حاسما قبل استعدادها القبول بالقانون القديم هو تعديله مسبقا. الخلاف انحصر في مسالة التعديل أم عدمه. وبالتفصيل:




تميل الأكثرية النيابية إلى رفض قانون الـ1960 كما هو، والى إمكان الأخذ به بعد التعديل، أي بعد إعادة توزيع المقاعد الـ29 التي أضيفت إلى قانون 1960 وجعلت البرلمان يضم 128 نائبا، وبعضهم فرضته دمشق بغية إنابة حلفاء لها في دوائر تفتقر إلى عدد من الناخبين يستلزم وجود المقعد فيها. (إضافة إلى نزع الاستثناء عن قانون 1960 الذي دمج ستة أقضية في ثلاث دوائر انتخابية، الأمر الذي يحتم رفع الأقضية الـ26 في قــانون 1960 إلــى 29 قضاء تحقيقا للمساواة بين الأقضية تلك).?




وينادي »تيار المستقبل« برئاسة النائب سعد الحريري بالأقضية المتعارف عليها. في حين، يبدو رئيس »اللقاء الديموقراطي« وليد جنبلاط غير متمسك بالقضاء، في ظل تحالفاته الحالية.




ويتمسك فريق المعارضة بدوره، بقانون الـ1960 من دون تعديل، غير أن لكل طرف في داخله رأيا في القانون الانتخابي الأنسب في حال عدم اعتماد القانون القديم.




فتكتل »التغيير والإصلاح« النيابي برئاسة النائب ميشال عون، ينادي بالدوائر الصغرى في حال اعتماد النظام الأكثري، والكبرى في حال اعتماد النظام النسبي.




أما »حزب الله« فطالما كان مشروعه يرتكز على صيغة »القائمة الموحدة« على أساس المحافظة والنسبية. وحركة »أمل« بزعامة رئيس المجلس النيابي نبيه بري أيضا مستعدة للقبول بأي قانون انطلاقا من قانون 1960 وما فوق (بلا تعديل) في إشارة إلى الدوائر الأكبر من القضاء.




مشروع "الهيئة الوطنية"


في 8 آب (أغسطس) 2005 شكلت الحكومة »الهيئة الوطنية الخاصة بوضع قانون الانتخابات النيابية« وكلفتها وضع مشروعها.




بعد تسعة أشهر، قدمت الهيئة »لجنة فؤاد بطرس«، واعتمد النسبية في دوائر واسعة فيها تنوع طائفي.




وعلى رغم عدم اعتراض الأطراف السياسيين (في العلن) على مشروع الهيئة، إلا أن المجلس النيابي لم يعقد جلسة يناقش فيها المشروع الذي أحالته الحكومة إليه.




المحامي زياد بارود العضو في الهيئة. يرى أن أي قانون انتخابي يجب أن يندرج في إطار المادة 24 من الدستور التي تقول بالتساوي في المقاعد بين المسلمين والمسيحيين وتوزيعها.




قانون الـ1960 بالنسبة إلى بارود لا يلبي طموحات اللبنانيين من ناحية إصلاح النــظام الانتخابي، فـ?»منذ عام 1960 تــطور الأداء الانــتخابي عبــر العالم، وصــارت الانتخابات علما قائما بذاته.




آنذاك، لم يكن واردا الكلام عن تنظيم الإعلام وضبط النفقات الانتخابية واقتراع غير المقيمين والكوتا النسائية ومكننة العملية الانتخابية«.
ويقول عن القانون القديم أيضا انه »لم يعتمد معيارا واحدا في التقسيم على مستوى حجم الدائرة وعدد المقاعد والحاصل الانتخابي«. غير أنه من وجهة نظر بارود »إذا كان المقصود من إعادة طرح قانون الستين هو الانطلاق من تقسيماته مع تعديلات طفيفة تأمينا لتوافق سياسي، فهذا أمر لا يمكن إلا أن ينظر إليه من باب التسوية، وبالتالي لا يمكن الوقوف في وجهه«.

Friday, May 16, 2008

بيروت ليست تل أبيب

 أبناء العاصمة يصرخون : بيروت ليست تل أبيب


منال أبو عبس
Al-Hayat (1,374 كلمة)
تاريخ النشر 16 مايو 2008


في محلة الضناوي في قلب بيروت، ترتفع لافتة كبيرة وحديثة، تحمل من الجانبين صورتي رئيس المجلس النيابي نبيه بري والأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله تتوسطهما نجمة داود. وفوق النجمة مباشرة الآية القرآنية الكريمة: »وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة«.

قبل أسبوع واحد من اليوم كانت ترتفع مكان اللافتة الكبيرة، صورة للإمام المغيب موسى الصدر، خلفه راية لـ?»حركة أمل«، من الواضح أنها استبدلت بأخرى بعد انتفاضة المعارضة في شوارع بيروت لتطبع الأحداث الأخيرة بطابع التصدي لإسرائيل.

إلى اليمين من اللافتة، كتب بخط عريض على الحائط، عبارة: »الحرب ليست ضد أهلنا السنة. بل ضد »القوات« و«الاشتراكيين« و?»المستقبل«، وبتوقيع: »من يريد أن يحاسبنا، أهلا وسهلا«.

في مناطق »الصراع« الأخرى: كورنيش المزرعة وبربور ورأس النبع والطريق الجديدة ومار الياس، يروي كثر عن أيام يتمنون ألا تعود. ويعكس وجوم وجوههم حنقا وخيبة. إذ بحسب عباراتهم: »ما حصل أحدث جرحا من الصعب جدا أن يندمل«.

هكذا تنظر بيروت الى الأحداث التي ضربت قلبها. تتحول شوارعها إلى غابة من رايات »حزب الله« وحركة »أمل« و?»القومي السوري الاجتماعي« وصور قادتهم. وتظهر خجولة في بعض مناطقها صور الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونجله النائب سعد الحريري ورايات »تيار المستقبل«، فيما تغيب كليا رايات »التيار الوطني الحر«.

في مار الياس تروى حكايات كثيرة عن يوم الخميس الأسود وما سبقه وما تلاه. يومها كانت انطوانيت تقف على شرفة منزلها في الطبقة الرابعة، وإذا بجندي من الجيش اللبناني يصرخ فيها أن تدخل إلى البيت. تسأله عن الذي يحصل، فلا يجيب. تدخل انطوانيت. ويغطي الرصاص صوت الصراخ. تبيت ليلتها في الحمام، ومن هناك تتصل بابنها كل 5 دقائق. ترجوه ألا يعود إلى بيته، وأن ينام عند خطيبته في »الشرقية«. فبالنسبة اليها »هناك الوضع أكثر أمانا«. في المبنى المجاور من مبنى انطوانيت، تقطن أم محمد. بيتها في الطبقة الأولى، وتقول إنها سمعت أحد العسكريين يصرخ: »وصلوا«، أي المسلحون، قبل أن يختفي كل الجنود، وتترك الساحة للمسلحين الملثمين. يصرخ أحدهم ووجهه إلى الأعلى: »من كان في منزله صورة للحريري، فليحضرها إلى هنا ويمزقها أمام أعيننا، وما لم يفعل ذلك فلن نعفو عنه«.

تتشابه روايتا السيدتين عن المرحلة التي تلت انسحاب الجيش: »ينقسم المسلحون إلى فرق يتألف كل منها من اثنين أو ثلاثة شبان. بعضهم يتوسطون الشوارع ويطلقون النار في الهواء وفي اتجاه شرفات الأبنية، وبعضهم يدخلون إلى نواطير الأبنية ويسألونهم ما إذا كان في المبنى شبان من »تيار المستقبل«. النواطير في الأغلب ينفون، غير أن المسلحين يجدون ضالتهم في الأسماء المسجلة على الانترفون. من هناك يختارون الشقق »الواجب تفتيشها والتحقيق مع قاطنيها«.

حكاية النواطير مع المسلحين لم تقف عند حد السؤال والإجابة عنه. كثر منهم تعرضوا للشتم والإهانة. وكثر أيضا، اختفت نقودهم بعد تفتيش المسلحين للحقائب، بحسب روايات النواطير وأبناء المنطقة.

في الطريق الجديدة الرواية مختلفة. هنا »قلعة الصمود« بالنسبة إلى »تيار المستقبل«. وعلى مداخلها ومتفرعاتها ما زالت تلوح صور الحريري وعبارات: أنت زعيمنا. وتصل حبال الشرائط الزرق بين الشرفات. غير أن الجديد هنا صورة لمن سقطوا خلال التشييع الأسبوع الماضي، مكتوب عليها: »مجزرة »حزب الله« وحركة »أمل«. وبجانبها لافتة كبيرة: »أهل بيروت لا يوجهون سلاحهم إلا إلى العدو الصهيوني«.

يختصر تاجر في الطريق ما حصل: »حاول مسلحون من حركة »أمل« الدخول إلى المنطقة من ناحية جامع عبد الناصر. قابلهم من الناحية الأخرى مسلحو »حزب الله«. تصدى لهم شباب المنطقة، فلم يتمكن المسلحون من الدخول. في اليوم التالي، دخل الجيش«.

إلى جانب رواية التاجر، رواية على لسان شابة من المنطقة. تقول إنها رأت الشبان يبكون متوسلين وسطاء أن يخبروا سعد الحريري أن يمدهم بالسلاح. هؤلاء بنظرها ما كانوا ليسكتوا عن استباحة بيروت. غير أن السلاح لم يصل. »وقف بعضهم وسط الطريق وراح يشتم. شتموا 14 آذار وسعد الحريري الذي لم يسلحهم. وصاروا يشترون رصاصة الكلاشينكوف بدولار ونصف الدولار«.

تشيـــر سيدة إلى أحد الأبنية التـــي تعرضت لرصاص المسلحين. تقول إن بيتها في احدى طبقاته، وإنه تعرض لضرر كبير. توجه كلامها إلى فريق المعارضة، غامزة من قناة »حزب الله«، وتقول: »من يريد أن يحمي سلاحه، فليرحل بعيدا من بيروت. نحن لا نريده ولا نريد سلاحه، فليرحل إلى الصحراء وليقاتل من يشاء«. وتستدرك: »لماذا يقاتلنا، هل وجهنا سلاحنا صوبه يوما؟ من أعطاه حق القتل والتدمير؟ هل صار أهل بيروت هم الإسرائيليون بنظره؟ وبيروت هل صارت تل أبيب؟ حرام عليه. نحن وقفنا في وجه إسرائيل قبل أن يظهر هو وحزبه. فليرحل عنا«. الحنق على المقاومة يقابله حنق كبير على الجيش هنا. وأقل ما سمعناه في هذا الإطار كان: »الجيش تركنا تحت رحمة المسلحين وقت المعارك«.

على تقاطع مسجد جامع عبدالناصر في اتجاه بربور، تتكثف رايات حركة »أمل« وصور بري وعبارات الولاء للمعارضة والتهديد لإسرائيل ولرئيس الحكومة فؤاد السنيورة. على مقربة من المدخل يقف شاب مع جهاز اتصال لا سلكي. الشاب، لم يبلغ العشرين، مقاتل من حركة »أمل«، كما يقول. ويروي الأحداث التي عاشها لحظة بلحظة: »التطورات بدأت على اثر تظاهرة الأربعاء. »المستقبل« رموا قنبلة على تظاهرة في كورنيش المزرعة وأصيب 5 بجروح. بدأ التشنج، وبعدما تحدث الزعماء وبدأ إطلاق الرصاص«. المنطقة شهدت بحسب الشاب معارك قوية دامت منذ السادسة مساء الخميس حتى السابعـــة صباح الجمعة. نسأله عن الحواجـــز والسلاح ورأيه في قتال ابن البلد، فيجــيب: »لم نقم حواجز هوية ولم نحتجز أحدا. لم يمدنا أحد بالسلاح، هو موجود دائما في المراكز. وأنا لم أشارك في إطلاق النار«. وإذا طلب منك ان تفعل؟ يجيب: »عندها لكل حادث حديث«.

يستفز السؤال رفيق الشاب، فيقول: »لا مشكلة عندي من أن أطلق النار على أحدهم. أنت لا تعرفينهم. هؤلاء باعونا لأميركا وإسرائيل، ويتعرضون لسلاح المقاومة. أنا مستعد لأن أقتل فداء للمشروع (شبكة الاتصالات)«.

من بربور إلى راس النبع، صور كثيرة للحريري وقد مزقت. وفي راس النبع ألصقت فوق بعضها صور للرئيس السوري بشار الأسد والرئيس اللبناني السابق اميل لحود. شارع محمد الحوت الذي شهد الاشتباكات الأعنف، مقفل أمام السيارات بأمر الجيش. على مدخله سيارات كثيرة مصابة باعيره نارية وزجاج متناثر على الأرض. يروي أحد أبناء المنطقة الأحداث الأخيرة، فيقول: »فجأة ظهروا على المداخل مدججين بالأسلحة«. يشير إلى أبنية مصابة بالرصاص وبقاذفات »ار بي جي«. ويضيف: »هنا كان مكتب تابع لتيار المستقبل. عندما هاجمنا المسلحون فر الحراس الأربعة الموجودون في المكتب، فاعتقلهم عناصر حركة »أمل« في نهاية الشارع. أطلق المسلحون الرصاص في الهواء ولم يتصدى لهم أحد. جالوا الطرق يشتمون الرجال، ويقولون إذا في رجال ينزلوا. جاري في البناية المقابلة رأيته يحمل سلاحا ويطلق النار على أبنية جيرانه«. وأضاف: »رأيتهم يطلقون النار على الجامع، هل كانوا يحررون فلسطين من الجامع؟ وعلى مدخل أحد الأبنية كتبوا: احذروا أيها السنة، »أمل« قادمة. هذا عيب«.

المنطقة صارت خالية من السيدات والبنات. يقول الراوي: »كانوا يتوعدون نساءنا، فأجليناهن إلى خارج بيروت«. يستطرد الراوي في الحديث عن أبناء المنطقة ومشاعر السخط والغضب التي تعتريهم: »دخلوا إلينا ليحاربوا إسرائيل في مناطقنا, إسرائيل لم تفعل بنا ما فعلوه هم. صحيح أن السياسة بلا دين، لكن هم أيضا بلا دين«.

يتحدث عن المسلحين اليوم، قائلا: »يجتازون حاجز الجيش ومسدساتهم على خصورهم، فلا يوجه الجنود إليهم أي كلمة اعتراض. وعند الظهر تصلهم وجبات الطعام من مطعم في الضاحية. كأنهم كانوا يقاتلون إسرائيل وتجب مكافأتهم«. يستفيض في الكلام عن »جبروت« المسلحين، ويروي حكاية محام ووالدته من آل طباره »بينما كانا يجتازان الشارع للهرب من المنطقة، أطلق المسلحون قذيفة »آر بي جي« في اتجاههم، فقضيا على الفور«، سائلا: »ما ذنب هذا الشاب ووالدته. هل كانت الحاجة ابنة الـ78 سنة تستهدف مشروع المقاومة وهي هاربة من المسلحين«. ويختم حديثه بالقول: »الحكاية لن تنتهي هنا. بالقلب ما رح تخلص«، ويضيف: »ديننا لا يسمح أن نكون اتباع اليهود أو الأميركيين أو نتعامل معهم، لكن ديننا أيضا لا يسمح لنا أن نوجه سلاحنا إلى صدور المسلمين. زرعوا في قلوبنا الكره والحقد وحرمونا النفس الحلو«.

في الزيدانية، لا تبدو الصورة افضل حالا. يصب صاحب أحد المحال التجارية جام غضبه على الجيش، متهما الجنود بأنهم »كانوا ينتظرون المسلحين خارج المكاتب إلى أن يفرغوا من التحقيق مع شبابنا وضربهم، بعدها كان الجيش يتسلمهم. ضاعت ثقتنا بالجيش«. يشير بإصبعه إلى زاوية حيث يجلس جنود من الجيش تحت راية لـ»حركة أمل«، ويقول: »منذ متى كان الجيش يرضى بأن يجلس عناصره تحت راية ميليشيا«.

بحسب التاجر، الأحداث التي مرت على الزيدانية، تشبه ما مر على مار الياس وراس النبع. غير أن خلاصته منها تبدو أكثر وضوحا: »قبل الأحداث كنت مع »حزب الله« حتى الموت. اليوم لم اعد أثق به. كان قائدهم يقول إنه لن يقوم بانقلاب ولن يوجه سلاحه إلى الداخل، وها هو فعلها. انظر إلى الحزب فلا أراه إلا ميليشيا مثل غيره، وإن كان اكثر قوة من الباقين«.

لا يبدو التاجر متفائلا بالمرحلة المقبلة على رغم الأنباء عن اتفاق وشيك، وغياب مظاهر الاستفزاز. ويقول: »مجرد وجود راياتهم مرفوعة في شوارعنا هو تحد لنا. كما أن سياراتهم تجوب شوارعنا كل يوم احتفالا بالنصر، كأنهم غزوا تل أبيب وليس بيروت«. ويشير إلى شجرة أمام محله، قائلا: »قطعوا أشجارنا وزرعوا عليها راياتهم. ألم ينتقدوا إسرائيل لقطعها أشجار الزيتون في فلسطين؟ الذي فعلوه ببيروت اكثر قسوة، لو يدركون«.



Sunday, May 11, 2008

لسنا بخير ... ماذا عنكم ؟

لبنان في نفق المحنة : لسنا بخير... ماذا عنكم ؟




منال أبو عبس
Al-Hayat (883 كلمة)
تاريخ النشر 11 مايو 2008

أنظر إلى الصورة المنشورة في الصفحة الأولى من « الحياة »، فلا أصدق. هل يجري هذا كله في عاصمتي بيروت؟ هل عاد الملثمون إليها؟ هل أحرقوا سيارات أهلها وبيوتهم؟ هل فعلا ينام ابني ويستيقظ على صوت الرصاص؟ هل يجري هذا كله وأنا عالقة في مطار فرانكفورت مع 13 زميلا صحافيا آخرين، وقد نفد تاريخ تأشيرات دخولنا جميعا إلى دول الاتحاد الأوروبي؟

أنظر إلى الصورة، وأقرأ في وجوه زملائي الخوف من مصير قذر يتقاذف بلدنا البعيد منا. 14 لبنانيا لكل منهم عائلة يعرف أنها لن تكون بخير ولبنان على شفير الهاوية. انظر إلى سلمان فأراه غارقا في عالم آخر. تقذفه الأفكار الشريرة إلى حيث زوجته وطفلاه عالقون في رأس النبع. منطقته المختلطة طائفيا تقع على حد السيف. ولا شيء يمكن لرب العائلة المعزول في قارة أخرى أن يفعله ليمسح الخوف عن عيني طفليه.

بسام أيضا يشعر بالخوف. بيته خارج بيروت الملتهبة، إلا أنه يعرف أن المنطق نبتة لا تنمو في أرض لبنان، وأن الجنون لن يهدأ قبل أن يقهر الجميع. أنظر إلى وجهه الذي تلون بأحمر الغيظ والغضب. وأتخيله يفكر بزوجته وأطفالهما الأربعة، وكم أن بلدنا ظالم في حق من أحبوه.

يتسع مطار فرانكفورت لنا جميعا. نضع حقائبنا الواحدة فوق الأخرى، ونجتمع في ركن منعزل كي لا نضيع بعضنا بعضا في المطار الكبير. صرنا لاجئين. ولم يبق في تأشيرة دخولنا الأوروبية إلا ساعات عدة. وأملنا بالعودة إلى بلدنا ومن نحب يبتعد مع كل خبر عاجل. هي بيروت تطعننا في القلب مرة جديدة.

يثقل المرض كاهل شحادة. مسكين. لم يكد يفرغ من ورشة عمل مكثفة جدا في برلين ولاهاي، حتى ارتفعت حرارته إلى درجة مقلقة. لشحاده أيضا ولدان صغيران، صبي وفتاة، كان قبل يوم واحد يسرق دقائق الفراغ ليشتري لهما هدايا تذكارية من الغربة. مسكين شحادة، يقلق على صغيريه وبلده، وتسرق منه مدينتنا المشتعلة حقه في أن نقلق عليه.

يعاند عباس أمامنا كي لا نرى القلق في عينيه. يجرب أن يقلب مسار القلق. لا يفلح. فالصدمة كبيرة والصور عاجلة عن بيروت تحترق... فتحرق القلب. عباس ينتظر مولودا بعد شهر ونصف. كان يخطط لإرسال زوجته إلى أميركا لتلد هناك، فتعود بجنسية أجنبية إلى شقيق ابنته الصغيرة. تقطيع أوصال بيروت وضواحيها افشل مخطط عباس وخططنا إلى العودة بهدايا تفرح قلوب أحبائنا في بيروت.

لم يسمح الوقت لعلي بأن يجلب لزوجته وابنيه هدايا كانوا طلبوها منه من برلين. قلق علي يختلف عن قلقنا جميعا، فزوجته وابناه يقيمان في الضاحية الجنوبية، ولا بوادر تشير إلى احتمال وصول الخطر إلى تلك المنطقة. غير أن الخوف يبقى جائزا. الخوف من بيروت التي تدهشنا كل مرة بقدرتها على جعل المستحيل أمرا محتما.

تنظر كلوديت في عيون الجميع واحدا تلو الآخر، فلا ترى فيها إلا احمرارا يدل على حنق العاجزين. طيب قلب كلوديت، لا تمل من مواساة الجميع. تتحدث كلوديت عن أشقائها وأصدقائها، ويبدو إحساسها أكيدا من أن هذه المرة الأحداث لن تطال محيطها.

من الصعب معرفة ما الذي يفكر فيه ادمون أو تيلدا وعصام. يسحب ادمون نفسه سرا من بيننا إلى ركن الهاتف العمومي. يعود إلينا بوجه أكثر احمرارا، ليقول إن الأخبار من بيروت سيئة، لكن لا جدوى من الغضب، لن نستطيع أن نوقف ما سيحدث. تيلدا تميل إلى الهدوء والابتسام، وعصام أيضا. طبع الأخيرين محبب وهدوءهما يترك من يجالسهما مرتاحا.

عمر عريس جديد، يتحدث كثيرا عن رغبته في إنجاب الكثير من الأطفال. الأخبار الواردة من بيروت، لا بد غيرت رأي عمر أو أجلت قراره لوقت طويل.

تتواصل الأخبار السيئة عن بيروت، ويتواصل حنقنا وغضبنا من عجزنا. عالقون في مطار كان يفترض أن نكون غادرناه صباحا إلى مطار بيروت. مطارنا مقفل الآن وليست لنا وجهة محددة، ولا بلد يمكن أن نغادرها الآن من دون تأشيرة. سمير (من مؤسسة فريديريتش ايبرت) ولين (من المركز الدولي للعدالة الانتقالية) يبذلان جهودا جبارة في تأمين وجهة. مسكينة لين بهمها المضاعف. قبل ساعات كان يفترض بزوجها أن يغادر إلى دبي، ويترك الطفلين مع والدتها. الزوج الآن عالق مع الولدين في السوديكو، والمنطقة المحيطة ببيتها تغلي بالمسلحين وأصوات الرصاص.

سمير أيضا مسكين. كان يفترض به أن يبقى في ألمانيا، ويلتقي أصدقاء كثرا. سمير الآن عالق في دوامة من الاتصالات لتامين نقلنا من ألمانيا، وللاطمئنان الى سلامة أولاده في لبنان.

انظر إلى وجوه الجميع ولا أشعر إلا بضباب داخل رأسي. أفكر في جاد الذي ينتظر مني هدية في مناسبة بلوغه العامين بعد أيام، وفي جهاد العالق في جريدة »السفير« وفي أمي وأبي. أحس بسهم من نار يخترق ضلوعي. كثيرة هذه الصور على بيروت. كثير هذا الدخان وهذه النار وهذا الكره يروي قلوب المراهقين الملثمين.

أفكر في هذا كله. وأبكي حتى أكاد اختنق.

بعد ساعات قليلة ننتقل جميعا إلى قبرص، حيث أقام من أراد منا في فندق حجزه لنا النائب سعد الحريري. قرب المسافة بين بيروت وقبرص لم يرو قلوبنا. نتحدث كثيرا عن أمنيتنا لو نذهب سباحة إلى بيروت، عاصمتنا الغالية. ننظر نحو البحر ونتمنى لو يلوح لنا من بعيد أحباء نشتاق إليهم، وننتظر بلا جدوى أن تفلح اتصالاتنا في الوصول إلى باخرة ترمينا على أي شاطئ من شواطئ بيروت.

يصلني صوت جاد عبر الهاتف. يتحدث بلغة لا أفهمها، لكن خالته تفسر أنه عائد للتو من مدخل البناية، حيث التقى عسكريين صاروا رفاقه. اسمع صوت الرصاص بوضوح عبر الهاتف، فيغلبني البكاء. لم أرده يوما أن يسمع صوت بكائي ولا صوت الرصاص. مسكين حبيبي جاد. لو كنت هناك ربما لجنبته سماع صوت الرصاص. لحملت صورا كثيرة احتفظ بها في غرفتي وذهبت إلى المسلحين الملثمين. لطلبت منهم أن ينظروا جيدا في الخوف المرسوم في عيون من في الصور وفي رائحة الدمار والدماء. ثم لطلبت منهم أن يقرأوا الأرقام الكبيرة للقتلى والمفقودين أسفلها. ولأخبرتهم كثيرا عن الذنب الذي سيرتكبونه وعن عذاب الضمير. لأخبرتهم أشياء كثيرة، ولاعتذرت باسمهم من بيروت، عاصمتي الغالية.