هنا دارة العائلة ... حيث الحزن في كل مكان
منال أبو عبس
Al-Hayat (771 كلمة)
تاريخ النشر 23 نوفمبر 2006
في قلب الغرفة يقف الشيخ أمين الجميل. الرئيس السابق يبدو متماسكاً، تماسك رجل دولة ألمت به مصيبة. غير بعيد منه يقف نجله سامي، وابن أخيه نديم بشير الجميل.
هنا في وسط الغرفة الفسيحة في قصر بكفيا، دارة مؤسس »حزب الكتائب« بيار الجميل، يستلقي نعش بيار الجميل الحفيد، وقد سقط شهيداً.
تقطع شهقات زوجته باتريسيا، الصمت المطبق على المكان. الى جانبها تركع شقيقته نيكول على الأرض، ملقية بثقل رأسها على نعش أخيها. حزن الأخت على أخيها له طابع آخر. حزن يحرق القلب على سند رأس أزاحه الموت. العمة الراهبة ارزة لم تكف عن تلاوة الصلاة. إيمان العمة التي نذرت نفسها للكنيسة يخفف عليها وطأة المصيبة.
النعش يتوسط الغرفة، والحجارة الصخر التي شيد منها المكان، تضاعف الإحساس بالكآبة. يمر المعزون واحداً تلو الآخر. يمدون أيديهم، فتتلقفها أيد أخرى تبحث عن مواساة. لا تقوى أيدي جويس، والدة الشهيد على تلقف أيدي المواسين. قدماها أيضاً لم تقويا على حملها، فسقطت على المقعد القريب من مقعد ابنها سامي. أي قدمين تحملان أما تنظر الى نعش ابنها يتوسط الغرفة؟
يمر السياسيون واحداً تلو الآخر، كما في شريط سينمائي. لا هيبة للسياسي وقت تقع المصيبة، ولا أهمية لتصريحات من هنا وأخرى من هناك. يمر السياسيون، ولولا وسائل الإعلام تتحلق من حولهم، لما انتبه أحد لوجودهم.
تمسد باتريسيا بيديها على النعش، وقد كسته بالدموع. تمرر يديها برفق على علم يلف النعش. لا أحد يعلم أي ذكريات تمر في رأس باتريسيا الحزينة الآن.
يغص القصر وشرفته ودرجه بالبشر. تشبه الصورة صوراً كثيرة اعتدنا عليها منذ نحو سنتين وحتى قبل ذلك. صور نعوش تتوسط الغرف. صور نساء يبكين دفئاً لن يلمسنه يوماً آخر. وصور مصورين يلتقطون الحزن في أعين الزوجة والأم والأب والأولاد.
تغص الساحة حيث حديقة القصر بالبشر. تلتصق الأجساد بعضها ببعض، ويستحيل التحرك خطوة واحدة. ساعات تمر قبل أن يصل المعزون في الساحة الى الغرفة التي يتوسطها النعش.
هنا الحزن في كل مكان. في الساحة المكتظة بالبشر. في الزاروب المؤدي الى ساحة أخرى ثم الى درج يوصل الى الغرفة التي يتوسطها النعش.
الساحة الخارجية تغص أيضاً بالبشر. شبان وشابات في الأغلب. بعض الرجال المسنين يجلسون على الكراسي البلاستيك. في هذه الساحة لا يسود الصمت. تنعقد حلقات الحوار ويغلف الانفعال والغضب وجوه البشر. يقول جان: »لن نرتاح قبل أن يسقط اميل لحود وميشال عون حاميا النظام السوري«. جان كان كتائبياً عندما اندلعت الحرب الأهلية. وخسر في القتالات التي شارك فيها قدمين وعيناً، ويضيف أن »الهدف من اغتيال الشيخ بيار هو إلغاء المحكمة الدولية وإسقاط الحـكومة لخلق فراغ دستوري«. يقول إن »ســورية دخــلت الى لبنــان في ظروف مشابهة للظروف الحالية. وان سـورية واسـرائيل متفـقتان علينا«.
رفيق جان الجالس الى جانبه، يقول: »إننا معتادون على أن يقتلوا لنا زعيماً كل فترة«. يرى في المشهد شبهاً لما سبق الحرب الأهلية، لكنه يؤكد »أننا اليوم أقوى. عندنا وحدة وطنية سنية ومسيحية ودرزية«، والوضع شديد الخطورة.
في المقلب الآخر من الساحة يجلس ثلاثة شبان وفتاة. يقولون انهم خسروا مثالاً أعلى آخر بعد الشيخ بشير. يفهمون خطاب الشيخ أمين الذي دعاهم الى التهدئة. ولا يفهمون لماذا »يحق للفريق الآخر النزول الى الشارع وإشعال الإطارات وتحطيم الأملاك العامة، إذا تعرض قائدهم للنقد في أحد البرامج التلفزيونية، أما نحن فيقتلون قادتنا، ويطلبون منا ضبط النفس«.
يغطي اللون الأسود الساحة الفسيحة. وتكسو الطرق المؤدية الى دارة آل الجميل صور شهداء انتفاضة الاستقلال وعبارة: »لن ننسى«. وأمس أضيفت صورة بيار الجميل مبتسماً، وخلفه السيارة التي اخترق زجاجها الرصاص في وضح النهار، وفوقها عبارة: »لن ننسى«.
منال أبو عبس
Al-Hayat (771 كلمة)
تاريخ النشر 23 نوفمبر 2006
في قلب الغرفة يقف الشيخ أمين الجميل. الرئيس السابق يبدو متماسكاً، تماسك رجل دولة ألمت به مصيبة. غير بعيد منه يقف نجله سامي، وابن أخيه نديم بشير الجميل.
هنا في وسط الغرفة الفسيحة في قصر بكفيا، دارة مؤسس »حزب الكتائب« بيار الجميل، يستلقي نعش بيار الجميل الحفيد، وقد سقط شهيداً.
تقطع شهقات زوجته باتريسيا، الصمت المطبق على المكان. الى جانبها تركع شقيقته نيكول على الأرض، ملقية بثقل رأسها على نعش أخيها. حزن الأخت على أخيها له طابع آخر. حزن يحرق القلب على سند رأس أزاحه الموت. العمة الراهبة ارزة لم تكف عن تلاوة الصلاة. إيمان العمة التي نذرت نفسها للكنيسة يخفف عليها وطأة المصيبة.
النعش يتوسط الغرفة، والحجارة الصخر التي شيد منها المكان، تضاعف الإحساس بالكآبة. يمر المعزون واحداً تلو الآخر. يمدون أيديهم، فتتلقفها أيد أخرى تبحث عن مواساة. لا تقوى أيدي جويس، والدة الشهيد على تلقف أيدي المواسين. قدماها أيضاً لم تقويا على حملها، فسقطت على المقعد القريب من مقعد ابنها سامي. أي قدمين تحملان أما تنظر الى نعش ابنها يتوسط الغرفة؟
يمر السياسيون واحداً تلو الآخر، كما في شريط سينمائي. لا هيبة للسياسي وقت تقع المصيبة، ولا أهمية لتصريحات من هنا وأخرى من هناك. يمر السياسيون، ولولا وسائل الإعلام تتحلق من حولهم، لما انتبه أحد لوجودهم.
تمسد باتريسيا بيديها على النعش، وقد كسته بالدموع. تمرر يديها برفق على علم يلف النعش. لا أحد يعلم أي ذكريات تمر في رأس باتريسيا الحزينة الآن.
يغص القصر وشرفته ودرجه بالبشر. تشبه الصورة صوراً كثيرة اعتدنا عليها منذ نحو سنتين وحتى قبل ذلك. صور نعوش تتوسط الغرف. صور نساء يبكين دفئاً لن يلمسنه يوماً آخر. وصور مصورين يلتقطون الحزن في أعين الزوجة والأم والأب والأولاد.
تغص الساحة حيث حديقة القصر بالبشر. تلتصق الأجساد بعضها ببعض، ويستحيل التحرك خطوة واحدة. ساعات تمر قبل أن يصل المعزون في الساحة الى الغرفة التي يتوسطها النعش.
هنا الحزن في كل مكان. في الساحة المكتظة بالبشر. في الزاروب المؤدي الى ساحة أخرى ثم الى درج يوصل الى الغرفة التي يتوسطها النعش.
الساحة الخارجية تغص أيضاً بالبشر. شبان وشابات في الأغلب. بعض الرجال المسنين يجلسون على الكراسي البلاستيك. في هذه الساحة لا يسود الصمت. تنعقد حلقات الحوار ويغلف الانفعال والغضب وجوه البشر. يقول جان: »لن نرتاح قبل أن يسقط اميل لحود وميشال عون حاميا النظام السوري«. جان كان كتائبياً عندما اندلعت الحرب الأهلية. وخسر في القتالات التي شارك فيها قدمين وعيناً، ويضيف أن »الهدف من اغتيال الشيخ بيار هو إلغاء المحكمة الدولية وإسقاط الحـكومة لخلق فراغ دستوري«. يقول إن »ســورية دخــلت الى لبنــان في ظروف مشابهة للظروف الحالية. وان سـورية واسـرائيل متفـقتان علينا«.
رفيق جان الجالس الى جانبه، يقول: »إننا معتادون على أن يقتلوا لنا زعيماً كل فترة«. يرى في المشهد شبهاً لما سبق الحرب الأهلية، لكنه يؤكد »أننا اليوم أقوى. عندنا وحدة وطنية سنية ومسيحية ودرزية«، والوضع شديد الخطورة.
في المقلب الآخر من الساحة يجلس ثلاثة شبان وفتاة. يقولون انهم خسروا مثالاً أعلى آخر بعد الشيخ بشير. يفهمون خطاب الشيخ أمين الذي دعاهم الى التهدئة. ولا يفهمون لماذا »يحق للفريق الآخر النزول الى الشارع وإشعال الإطارات وتحطيم الأملاك العامة، إذا تعرض قائدهم للنقد في أحد البرامج التلفزيونية، أما نحن فيقتلون قادتنا، ويطلبون منا ضبط النفس«.
يغطي اللون الأسود الساحة الفسيحة. وتكسو الطرق المؤدية الى دارة آل الجميل صور شهداء انتفاضة الاستقلال وعبارة: »لن ننسى«. وأمس أضيفت صورة بيار الجميل مبتسماً، وخلفه السيارة التي اخترق زجاجها الرصاص في وضح النهار، وفوقها عبارة: »لن ننسى«.
No comments:
Post a Comment