Tuesday, July 27, 2004

هي صورة بيضاء ... وأنا احبها !

هي صورة بيضاء ... وأنا احبها !

منال أبو عبس
Al-Hayat (630 كلمة)
تاريخ النشر 27 يوليو 2004



ما إن وقعت يدا صديقي على المجلة المرمية على الطاولة أمامي، حتى تنفست الصعداء. فالمجلة التي كانت مشروع تخرجي الجامعي يفترض بها أن تلهي صديقي عني مدة لا تقل عن ساعة، مما يعطيني فرصة الاستمتاع بهوايتي المفضلة... الإصغاء إلى الصمت.

ولما كان صديقي من هواة القراءة العكسية، فقد وجد في صفحة الإهداءات منطلقا لسيل هائل من التساؤلات. «سوف تتعلمين أن تتخلي في كل مرحلة من مراحل حياتك عن شيء... عن حلم، أو مبدأ أو وهم... لا تحزني، إنها الحياة». أعاد قراءة نص إهدائي متسائلا بسخرية: «ما الذي كنت تفكرين فيه حين كتبت هذه العبارة؟».

ما يتوقعه القارئ مني في هذه اللحظة، أن أعيد على مسمع صديقي حتمية أن يتخلى الإنسان في كل مرحلة من عمره عن شيء. كأن اخبره أنني كنت من المتمسكين بالمبادئ والمثل العليا، أو أنني تنقلت بين طرفي النقيض من دون ثبات إلى أن فقدت كل إحساس بالانتماء أو الولاء...

دارت الأفكار في رأسي دورتها الكاملة، تراصفت في كلمات وجمل مفيدة وتوجهت نحو صديقي: «كنت أحاول أن اكتب عن... عن... شو؟». غطت على ذاكرتي صورة بيضاء.

«شو»، أو «ماذا» بالعربية الفصحى، كلمة تتصدر ذاكرتي كلما وضعتني الظروف أمام حديث لا بد لي من المشاركة فيه، فيكون أول ما يظهر في مخيلتي صورة بيضاء تتوسطها كلمة «شو؟»، استلها لاشعوريا لأجيب بها عن أي سؤال. «شو» المنقذة، كلمة أخال أنني نطقت بها، حتى قبل أن انطق بـ«ماما».

ما سبق ليس إلا تذمرا شخصيا من حالة لا تتعبني، إلا أنها لا تريح من هم حولي. فآخر ما يخطر في بال السائل، بغض النظر عن مدى قرابته لي، هو أن تتم الإجابة على سؤاله، بـ: «أنا... أنا... شو؟». والغريب في الأمر أن ظاهرة معاداة الكلام بدأت تتفشى في صفوف رفاقي الذين أضحوا يفضلون التواصل المكتوب على اللقاءات الشخصية. الخيار الأخير يريحني ربما اكثر منهم جميعا، لأن الورقة والقلم، أو الشاشة ولوحة المفاتيح، مكانان لا أبذل جهدا في التواصل معهما ولساعات يومية، مفتقدة ألـ «شو؟» خاصتي.

التواصل المكتوب حل يبدو حتى اللحظة مريحا، لأنه: أولا، يحررني من خجل يشكل حاجزا بيني وبين الشخص المقابل، خصوصا عندما تكون المقابلة رسمية أو مع شخص تربطني به علاقة عمل. وفي هذا الإطار تحل «السيرة الذاتية» المشكلة بأقل ضرر ممكن.

ثانيا، تبادل الرسائل الإلكترونية، أو الدردشة عبر الإنترنت، تطيل أمد صداقات ولا تبعث فيها الملل.

وثالثا، إنها تفسح المجال أمام الجميع لإكمال عباراتهم، وهذا لا يتوافر أثناء الحديث العادي. إذ ما إن يهم الأول بالكلام عن شيء حدث معه، حتى يقاطعه الثاني بـ «أنا أيضا كذا، فـ....»، وتضيع الفكرة.

تخيل انك الآن تسير في طريق سريع، السيارات والأشجار في أماكنها المعهودة، امرأتك إلى جانبك تبادلها أطراف الحديث. كل شيء يبدو طبيعيا، عاديا، وسريعا... فجأة تنقلب الصورة ويختفي الجميع... هل كان لون الصورة التي غطت ذاكرتك ابيضا؟

No comments:

Post a Comment