Tuesday, February 19, 2008

خطوط التماس الوهمية تقطع قلب بيروت

خطوط التماس الوهمية تتلوى في قلب بيروت... وتقطعه


منال أبو عبس
Al-Hayat (729 كلمة)
تاريخ النشر 19 فبراير 2008

لم تغادر صور الحرب الأهلية ذاكرة اللبنانيين بعد. عباراتها القاسية لم تهجر قاموسهم. « خطوط تماس » الحرب تطل برأسها من جديد. الأحاديث عن »ميليشياتها« و »مسلحيها الملثمين« عادت بعد سنوات طويلة، تقيم على الأنفس حد السيف.

في بيروت، تغيرت المواقع كثيرا بين الأمس واليوم. عبارة مثل »الشرقية والغربية« الشهيرة ما عادت تدب الرعب في العروق. خطوط التماس الجديدة صارت تمر في قلب العاصمة وتقطعه. تقسم جانبي الشوارع وطبقات المباني. هي خطوط غير مرئية، تتلوى كأفعى بين الأحياء بحسب انتماء القاطنين فيها الى هذا المذهب او ذاك. أحداث السبت الفائت، كما الأحداث التي تنفجر مع المناسبات وارتفاع التوتر، تحول هذه الخطوط الوهمية واقعا. ينشر الجيش اللبناني جنوده وآلياته بالعشرات فاصلا بين »المقاتلين«. ومن تجول ليل السبت الفائت في الشوارع راعه هذا العدد الكبير من الحواجز والملالات، غير أنه لا بد يشعر بإطمئنان لأن جهة مسؤولة ما زالت تحفظ أمن المدينة، بعكس أيام الحرب المشؤومة.

قلل الجيش اللبناني، بدءا من يوم أمس، عديده المستنفر في الطرقات، وعادت الحياة الى طبيعتها، تحت طقس عاصف بات على ما يبدو المؤشر الوحيد الى حسن حظ اللبنانيين هذه الايام لأنه سيمنع الشبان من الأطراف المتخاصمة من التعارك.

فتحت المحال التجارية. لكن الخطوط ما زالت موجودة. وهي تحز في النفوس. تميز بين هويتي بائع الخضار وصاحب محل الخبز المجاور: الأول يفدي »حزب الله« بروحه، والثاني يبايع »الشيخ سعد الحريري« بدمه. الأول يرفع في محله صورة للامين العام للحزب السيد حسن نصر الله، شاهرا إصبعه في وجه من يفترض أنه الطرف الآخر، ويتوعد: »أي يد ستمتد إلى سلاح المقاومة، يد إسرائيلية سنقطعها«. وعلى ماكينة المحاسبة عند الثاني صورة للرئيس الشهيد رفيق الحريري وابنه سعد، وعليها: »الله يحميك يا شيخنا«.

الانقسام يقطع قلب العاصمة، وطوائفها ومذاهبها. دائرته ضاقت كثيرا. صاحب محل الألبسة على مشارف حي اللجا يقول إنه ما شعر يوما بخوف يماثل خوفه الآن من »المجهول«. محله يقع في نقطة تشهد كل فترة اشكالات بين أبناء الحي، وغالبيتهم توالي »حركة أمل« و »حزب الله«، وبين شارع مار الياس التجاري وامتداداته حيث النفوذ الواسع لـ »تيار المستقبل« والحزب التقدمي الاشتراكي. في الاشكالات الأخيرة، لم يتعرض المحل أو أي من الأخرى المجاورة له للأذى. لكن، من يضمن ألا يكون الآتي أعظم؟ »اليوم لم تفلح الاشاعات بأن شباب حي اللجا يتعرضون للمارة من أنصار المستقبل، في جعل شبان المستقبل ينزلون إلى الشارع ويقومون بالمثل، في الاشكالات المقبلة من يضمن ألا تفلح الشائعات؟«، يقول متوقعا أن تشهد الأيام المقبلة أحداثا مماثلة، فـ »الشباب قلوبهم ملآنة حقدا على بعضهم بعضا«.

في تقاطع كورنيش المزرعة الذي يصل الطريق الجديدة ببربور تبدو الصورة أكثر تعبيرا: لافتات وصور شهرت متقابلة تأكيدا للاختلاف في الهوية والانتماء. من جهة الطريق الجديدة، تتكثف صور الرئيس الحريري ونجله واعلام »تيار المستقبل« وشعارات »الحقيقة« الزرقاء. كما ترفع صورة من وحي عيد الحب، ترسم قلبا في جانب منه صورة الرئيس الحريري، وفي الجانب الآخر المفتي الشهيد حسن خالد، ويخترق القلب سهم يبدأ في 16 أيار (مايو) 1989 وينتهي في 14 شباط (فبراير) 2005، وعبارة: »قلب العروبة الدامي«.

في المقلب الآخر من التقاطع، حيث بداية شارع بربور تبدو الهوية أيضا مشهورة للعيان. على أعمدة الكهرباء والجدران ترتفع أعلام سود لـ »حركة أمل«، وصور كثيرة للإمام المغيب موسى الصدر.

عبارات مثل: »هيهات منا الذلة«، و »القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة«، تكثر هنا، وتطبع المنطقة بطابع النقيض مع المقلب الآخر. في العادة تبدأ الشرارات عند الكورنيش الفاصل بين الجهتين. وغالبا، يتهم طرف من الاثنين خصمه بأنه كان البادئ بالهجوم على منطقته، فاضطر الى الرد ليحمي »المنطقة«.

من بربور إلى البسطة، حيث الاشكالات المتجددة، تنتشر لافتات وشعارات وصور زعماء الطرفين. أمام تعاونية البسطة ترتفع صورة كبيرة لرباعي المعارضة: رئيس المجلس النيابي نبيه بري والسيد نصر الله ورئيس تكتل »التغيير والإصلاح« ميشال عون والوزير السابق سليمان فرنجية. لافتة: »لا للفتنة بين المسلمين«، تقابل الشعارات المتناقضة، ولا تجد صداها في أي من طرفي الصراع. فـ »من ينزل إلى الشارع لا يهمه كثيرا الوحدة بين المسلمين، هؤلاء زعران من الفريقين«، بحسب توصيف مريم، وهي سيدة في العقد السادس من العمر، تقطن في البسطة الفوقا منذ »سنوات لم أعد أتذكر عددها«. لا تلبث مريم أن تبدي ارتياحا إلى ما أفيد عن اتفاق على إجراءات تتخذها الأطراف المعنية (حركة »امل« و »حزب الله« و »تيار المستقبل«) للحد من المواجهات بين أنصارها.

في فضاء البسطة تلوح أعلام »حزب الله« إلى جانب صور نصر الله وعلى أرضها يقف عناصر الجيش المنتشرون تحت المطر في يوم بيروت العاصف.

في شارع محمد الحوت في رأس النبع ترتفع لافتة عليها: »الشارع بالشارع والمهرجان بالمهرجان والتعبئة بالتعبئة والبادي أظلم«. لا تحمل اللافتة توقيع أي من أحزاب الفريقين المتخاصمين، فتبدو كأنها عنصر الإجماع النابض في قلب العاصمة المنقسمة على الخوف.

Monday, February 18, 2008

ليلة الاشتباكات الطويلة

عن ليلة الاشتباكات الطويلة ... والمسالك الآمنة قليلة


منال أبو عبس
Al-Hayat (610 كلمة)
تاريخ النشر 18 فبراير 2008


ترن الهواتف الخليوية واحدا تلو الآخر. تتبدل ملامح أكثر من وجه دفعة واحدة. وترتفع عبارات استهجان كثيرة، ترافق أسئلة من نوع: »شو ولعت«؟ باللبنانية العامية، والتي تعني: »هل انطلقت شرارة الحرب« بالعربية الفصحى.

يتوالى رنين الهواتف، وتتوالى الأنباء عن اشتباكات متنقلة. رأس النبع ثم البسطة وبربور وحي اللجا ومار الياس. الأخبار المتناقلة تفيد بأن لا مسالك آمنة لمن أراد مغادرة منطقة الحمرا منتصف ليل أول من أمس. والمقهى المكتظ بالزبائن كعادته في كل نهاية أسبوع، متمسك بقراره الملصق على الحائط: »الحكي أحلى، بلا سياسة«. وهو في هذه الحال يعني أن لا قرار يسمح بمشاهدة قنوات الأخبار، بدلا من المباراة الودية بين فريقين من المقلب الآخر من الكرة الأرضية.

»عم يحرقوا محلات ببربور يا شباب«، تقول آخر الأخبار الخليوية. تقع العبارة كالصاعقة على الوجوه. ويفعل الخوف فعل النقر في العظام. الخوف من التبدل الطارئ على قواعد الشغب شبه اليومي، يضع الآن بيوت أيا كان ومصالحه في دائرة الاستهداف. فالشغب بين أنصار الأكثرية وبالأخص »تيار المستقبل« والمعارضة وبالأخص »حزب الله« وحركة »أمل«، وصل إلى حد الأذى في الأملاك الخاصة. وأصحاب المحلات في بربور ليسوا من فريق واحد ولا طائفة واحدة، مثلهم مثل اصحاب الأملاك في بقية مناطق بيروت التي يستحيل الفرز بين جمهور الفريقين فيها.

الخبر الخليوي التالي يقول إن »المسلحين خرجوا من حي اللجا، وقطعوا شارع مار الياس، وهم الآن يتعرضون للمارة من الفريق الأخر«. الخطر إذا يقترب وتتوسع دائرته. يفرغ المقهى المكتظ من زبائنه. وتعلو همسات الأسئلة عن كيفية الوصول إلى منطقة معينة من دون المرور بـ«مناطق الصراع«. المسلك الآمن لن يتوافر للجميع. الاشتباكات تضرب في مناطق لا يمكن الالتفاف عليها جميعها، كما أنها تمتد في اتجاه مناطق أخرى بسرعة. قرار »البقاء حيث أنت«، يقال أنه الأنسب في أحوال كهذه. السكون أفضل من التجول في شوارع بيروت. لكن، المقهى صار شبه فارغ، ومباراة كرة القدم بين فريقي آخر الدنيا لم تنته بعد.

شارع الحمراء أيضا صار خاليا. لا زحمة سيارات ولا عجقة شبان وشابات، كما في كل نهاية أسبوع. والبعض قرر مغادرة بيروت ليلا إلى فنادق مناطق آمنة في جبل لبنان وغيرها، أو إلى منازل أقارب وأصحاب تيسر الوصول إليهم.

الاشتباكات ألقت بظلالها على شوارع بيروت غير المشمولة بـ »الصراع« وأفرغتها زحمتها. كورنيش البحر يشكل مخرجا من وحشة الحمراء. الساعة تجاوزت منتصف الليل، وجولة بجانب البحر قد تنقي الرأس من أفكار سود تقرع طبولها فيه. لكن، لم يسبق أن كان البحر موحشا، كما بدا ليل أول من أمس. لا سيارات على الجوانب، ورافعة قوى الأمن الداخلي تجول الشارع مطلقة صفاراتها وإشاراتها الضوئية في مشهد يذكر بأن ثمة حربا تدور في شوارع في جانب آخر من بيروت. ممنوع أن تبيت السيارات ليلتها على رصيف الكورنيش، يأمر الصوت الآتي من الرافعة.

حسنا، لن تبيت السيارة ليلتها بجانب الرصيف. فالأخبار الخليوية تقول إن الاشتباكات طوقت وانتهت، وإن الجيش منتشر على الطرق، ما يعني أن العودة إلى المنزل صارت ممكنة.

يدخل الهواء باردا من نافذة السيارة وهي تجول طرق بيروت فجر أمس. تمر السيارة بمستوعبات النفايات المقلوبة في عائشة بكار. تمر بعصي الخشب والحجارة والمستوعبات في مار الياس وبالأسلاك الشائكة التي نصبت في أكثر من شارع. تمر بعناصر مكافحة الشغب يشكلون سدين منيعين متقابلين يمنع التقاء شبان الطريق الجديدة وبربور أمام جامع عبد الناصر، وبحطام السيارات والمحلات المحترقة في البربير. وتمر بالحواجز الحديد التي تجبر السيارات على لــعب »الزيك زاك« لاجتيازها في المتحف والصــنائع وقرب دار الــفتوى.

تمر السيارة بالبسطة التي تعج بعناصر الجيش وبشارة الخوري لتصل إلى الخندق الغميق. هنا صورة الدبابات والعسكر والركام ومستوعبات النفايات تفوق ما يمكن وصفه باشكالات بين شبان.

هنا يقف جنود كثر بسترات واقية من الرصاص. يتجه أربعة منهم في اتجاه السيارة. يقف اثنان أمامها لمنعها من التقدم، ويتوجه آخران في اتجاه السائق لتفتيش السيارة.

العاصفة التي وعدت مصلحة الأرصاد الجوية بها، لم تصل بعد. العاصفة الأخرى وصلت قبلا. عاثت في الأرض فسادا، وأيقظت في النفوس خوفا موجعا من انفجار تختبئ منه المدينة خلف شــوارعها وأزقتها.

Friday, February 15, 2008

تشييع عماد مغنية. وغضب الضاحية

«حزب الله» يشيع الشهيد عماد مغنية بحزن وغضب في ضاحية بيروت الجنوبية


منال أبو عبس
Al-Hayat (613 كلمة)
تاريخ النشر 15 فبراير 2008


شيع « حزب الله » أمس في مجمع سيد الشهداء في الضاحية الجنوبية لبيروت، أحد أبرز قادته العسكريين والأمنيين عماد مغنية المعروف بـ« الحاج رضوان » الذي كان اغتيل في دمشق بتفجير سيارته ليل الثلثاء - الأربعاء.

وعند الثالثة والنصف عصرا، خرج نعش مغنية ملفوفا بعلم الحزب الأصفر ومحمولا على أكف شبان من »حزب الله« من المجمع، في اتجاه مثواه الأخير في مدافن روضة الشهيدين. غص صوت مقرئ مجلس العزاء، وهو يردد بحزن: »حاج رضوان، شهادة مباركة. حاج رضوان، في أمان الله يا حبيب«. وبينما الأيدي تلوح للنعش مودعة، ارتفع نحيب النسوة المتشحات بالأسود، وغابت وجوه رجال كثر تحت أكف أيديهم. واهتزت الأجساد على وقع بكاء الرجال.

في تشييع عماد مغنية بكى الرجال وانتحبت النسوة. وعلى وقع هتافات »الموت لأمريكا. الموت لإسرائيل«، وهتافات »لبيك يا نصر الله« و »لا اله إلا الله، والشهيد حبيب الله«، سار الآلاف من أنصار »حزب الله« في وداع قائد ما عرفوا صورته إلا بعد مماته.

في هدوء يشبه البكاء همسا، رحل مغنية إلى روضة الشهيدين شهيدا جديدا، محاطا بمن أحبوه.

لكن، قبل رحلته الأخيرة، ولساعات عدة، كان نعش مغنية مسجى على المنصة داخل قاعة المجمع. في اتجاه النعش، تسمرت أنظار المعزين، وأمامهم مباشرة صورة غير منشورة لمغنية بلباس المعركة، وتظهر رأسه من ناحية الجانب. المنصة كما القاعة وخارجها تحت حراسة عناصر أمن »حزب الله« المتشحين بالأسود حتى القبعات، والذين تولوا أيضا تأمين حضور الرجال والنساء في ركنين مفصولين.

أسفل المنصة، وفي مواجهة الحشد، جلس فايز مغنية والد الشهيد إلى جانب المقربين وأعضاء من المكتب السياسي لـ »حزب الله« ونائب الأمين العام لـ »الحزب« الشيخ نعيم قاسم ورئيس كتلة »الوفاء للمقاومة« النيابية محمد رعد وممثل رئيس المجلس النيابي نبيه بري النائب علي حسن خليل وشخصيات كثيرة يتقبلون التبريكات. إلى هؤلاء انضم أيضا، وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي على رأس وفد من الجمهورية الإسلامية. في وسط الصف الذي يضم هؤلاء وأمام النعش مباشرة جلس مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب نواف الموسوي، وأمامه مباشرة يقف أربعة من رجال الأمن في الحزب يحجبون الرؤية عن الكرسيين الملاصقين لكرسيه، حيث ولدا مغنية مصطفى وجهاد.

في هذه القاعة كان الصمت مطبقا. لا يقطعه إلا صوت نحيب أو همس بكاء. صمت يخرقه طلب لأحدهم: »صلوا على النبي«. هنا يقف الجميع دفعة واحدة، ويرتفع الصوت: »اللهم صلى على محمد وآل محمد«. القبضات أيضا، سترتفع في وقت لاحق. خلال خطاب الأمين العام لـ »حزب الله« السيد حسن نصر الله المنقول على شاشة كبيرة ارتفعت أكثر من مرة. وترافقت مع عبارات: »لبيك يا نصر الله«.

يقول السيد عبارة معناها إن »موت مغنية يجعل العد لبدء زوال إسرائيل يبدأ«. العبارة الأخيرة تقع على الحاضرين وقوع كلمة سر، فيقف الجميع دفعة واحدة، وترتفع القبضات عاليا، والهتافات: »لبيك يا نصر الله«.

كلمة السيد لا تستغرق وقتا طويلا، غير أن فيها وعدا بأنه سيتحدث لاحقا عن من هو عماد مغنية. تبدأ مراسم الصلاة على جثمان الشهيد. تعزف فرقة الكشافة نشيد الموت ثم نشيد الحزب. يؤدي الشبان تحية عسكرية للنعش، تليها أوامر عسكرية: »تأهب«، »مكانك«.

ينزل الشبان النعش من المنصة، ويتولى الشيخ نعيم قاسم الصلاة عن روح الشهيد، وقد وضع أمام الصف الأول للمعزين. تنتهي الصلاة ويرفع النعش مرة ثانية على الأكتاف. تبدأ الأيدي بالتلويح. تنتحب النسوة ويجهش الرجال.

عصر امس، غادر عماد مغنية إلى مثواه الأخير شهيدا. قبل مغادرته كانت أناشيد دوت باسمه وترددت في الأصداء: »من عزيمتنا لن ينالوا. من مسيرتنا لن ينالوا. كلنا ايمان. كلنا رضوان« وأخرى: »ابدأ بعرسك لم تزل، بك الشهادة تحتفل، من قال رضوان رحل، كلا وما رحل البطل«.

أمس، حمل نعش الحاج رضوان شبان تربوا على عقيدته. ردد هؤلاء عباراتهم الجاهزة مع تشييع كل شهيد: »لا اله الا الله والشهيد حبيب الله«، »يا الله يا الله احفظ لنا نصر الله«، وأمامهم رفرفت رايات »حزب الله« السود. ورددت الحناجر عبارات: »الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل«. كما رفعت لافتة باسم »السرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي«، وعليها صورة مغنية: »لم يقفل الحساب، فلا تقلق. فتح الحساب، ولن يغلق«.

Thursday, February 14, 2008

الخبر الصباحي الثقيل يصيب الضاحية بالسكون


المعزون يتدفقون في حضور نجلي الشهيد وجده ووالده الذي فقد أبناءه الثلاثة
الخبر الصباحي الثقيل يصيب الضاحية بالسكون


منال أبو عبس
Al-Hayat (591 كلمة)
تاريخ النشر 14 فبراير 2008
يقع الخبر الصباحي العاجل ثقيلا. خبر من خارج المعادلة المفروضة على أذهان اللبنانيين منذ أكثر من ثلاث سنوات. استشهاد عماد مغنية، أبرز قياديي »حزب الله«، في تفجير في دمشق. تصديق الخبر يستوجب قراءة ثانية وثالثة. إذ، وفق المعادلة القسرية منذ محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة، عماد مغنية ليس أحد قادة 14 آذار (مارس)، والمخاوف كانت حتى ساعة ورود الخبر العاجل منصبة في اتجاه واحد: تفجير على شاكلة جريمة عين علق (قبل يوم واحد من ذكرى 14 شباط الماضي)، لمنع جمهور »ثورة الأرز« من العودة إلى ساحته مرة جديدة.

عنصر المفاجأة يثقل الخبر. اغتيال قائد عسكري وأمني، قد يكون الأرفع في »حزب الله«، في عملية تتطلب خرقا أمنيا دقيقا في قلب العاصمة السورية دمشق، هو مفاجأة من العيار الثقيل. لكن، عدا عن المفاجأة، بدا الهدوء مخيما على مناطق نفوذ »حزب الله« على امتداد نهار أمس.

عند الحادية عشرة ظهرا، كان حارس المبنى في بيروت يردد الخبر العاجل على مسمع السيدة. »انفجار في سورية. ومات عماد مغنية«، يقول. لا تعني العبارة للسيدة شيئا، ولا يبدو عليها أنها عرفت بالأصل من هو مغنية. لكن الجملة تقع وقوع الصاعقة على مسامع رجل يحمل طفلا، كان يهم بمغادرة المبنى. »شو؟«، يسأل الرجل، ولا ينتظر أي جواب: »عماد مغنية؟ عماد مغنية... زلزال. الرجل مثل السيد (حسن نصر الله) في الحزب«.

الذهول الذي خيم للتو على وجه كل من الحارس والسيدة، يغيب عن شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت. هنا، لا شيء يدل على هول الواقعة، وعلى أن الخطر قادر على الضرب في موضع موجع. الحياة عادية كما في كل يوم. زحمة السيارات والمارة وأصوات الباعة والمحال وعناصر الانضباط التابعون لـ »حزب الله« وسط الطرق. كل شيء عادي، حتى يخال المتجول أن الحدث الكبير يعني أشخاصا آخرين غير الموجودين هنا.

أمام جامع »القائم« في قلب الضاحية، يبدو الأسود لونا غالبا. يتجمع عدد من النسوة على أحد الأرصفة. ويصطف الرجال على درج الجامع، في مقابل رجال آخرين على جانب الطريق. وكما هي الحال في مجمع »سيد الشهداء« الذي يتحضر براياته السود لاستقبال المعزين بعد قليل، فإن تعليمات الانضباطيين بأن على الصحافيين التوجه إلى مكتب العلاقات الإعلامية لـ »حزب الله«.

الطريق من المجمع إلى المكتب تمر بأسواق تجارية لم تقفل حدادا. وما يمكن أن يردده أي من الناس هنا، لن يتعدى ما يعرفه سائق سيارة الأجرة المناصر لـ »حزب الله« عن الشهيد: »والله كان مهما جدا بالنسبة إلى الحزب ونفذ عملية قتل جنود المارينز في بيروت عام 1983، كما شارك ميدانيا في حرب تموز (يوليو) الأخيرة«. وباستثناء الأحاديث الشعبية المنقولة بالتواتر، تغيب عن أذهان الناس أي صورة ملموسة تربط الشهيد بذاكرتهم، أو بما يمثله في »حزب الله«.

في مكتب العلاقات الإعلامية تبدو الصدمة أشد وطأة. يتململ الصحافيون من قرارات منعهم من التصوير أو من بث تقاريرهم من الضاحية. وينهمك المسؤول الإعلامي في »حزب الله« الدكتور حسين رحال في محاولة الحصول على قرار، سيصدر قبل الثانية بعد الظهر، يسمح للصحافيين بتغطية التعازي في مجمع سيد الشهداء.

في مجمع سيد الشهداء يبدو المشهد أكثر قسوة. الحزن مؤلم وصادق. في الصدر يجلس نائب الأمين العام لـ »حزب الله« الشيخ نعيم قاسم ورئيس المجلس التنفيذي في الحزب السيد هاشم صفي الدين، ومعهما يقف والد الشهيد فايز ومعظم نواب »حزب الله«، وسياسيون كثر من فريق المعارضة. الوالد متماسك. هذا ابنه الثالث الذي يستشهد بعد فؤاد وجهاد. أما الجد، والد الوالد، فيحضن ابنه الذي خسر أولاده الثلاثة، ويغرق على صدره في بكاء عميق.

على بعد أمتار من الوالد، يرقد الابن في نعش مسجى على المنصة ملفوفا بعلم الحزب الأصفر. تصوير النعش ممنوع، كذلك بضعة رجال يقفون اسفل المنصة. بين هؤلاء شابان لا يتوقفان عن البكاء. هما ولدا مغنية، مصطفى وجهاد. يفصل بينهما وبين المعزين مجموعة من الشبان يصطفون مواجهين لهما، لمنع الكاميرا من التقاط وجهيهما الحزينين على الأب الذي هما من قلة قليلة كانت تعرف وجهه.