Sunday, March 31, 2013

مهجرو الكرنتينا

مهجرو «الكرنتينا» يملكون أغلى عقارات لبنان... ويعيشون في أقبية! 



بيروت - منال أبو عبس
الأحد ٣١ مارس ٢٠١٣
http://alhayat.com/Details/498132





تتورد وجنتا الحاجة سامية وهي تستعيد أيام «الماضي الجميل». تحكي عن بيت العائلة في الكرنتينا، وعن النقوش على حائط الرخام في صالون منزلها الواسع. تلمع عيناها، كأنما عادت للتو إلى ذاك المنزل، في «زمن العز» حين كان والدها تاجر لحوم ميسور الحال، وتعيش هي وأمها وإخوتها في رغد. يبدو أن قلة في لبنان يعرفون شيئاً عن ذلك «العز» الذي مر على أهالي منطقة تعرف شعبياً باسم «الكرنتينا» أو «المسلخ» وتقع في محلة «المدوّر» على شاطئ بيروت.

ذات ليلة منتصف كانون الثاني (يناير) 1976، بعد عام على اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، فرض تهجير قسري على سامية مثلها مثل كثيرين من قاطني الكرنتينا وقتها والمقدرين بأكثر من عشرة آلاف لبناني على وقع القصف والقتل. تركوا خلفهم بيوتاً وأرزاقاً على أمل العودة إليها بعد انتهاء العنف، وأقاموا حيث أمكن. لكن، وبعد 37 سنة على التهجير و23 سنة على انتهاء الحرب الأهلية لم يعد من باتوا يعرفون باسم «مهجري الكرنتينا» إلى بيوتهم لأسباب يقولون إنها طائفية، إذ يغلب على المنطقة الطابع المسيحي في حين ينتمي معظم المهجرين إلى الطائفة المسلمة.

معظم اللبنانيين ينظرون إلى هؤلاء المهجرين على أنهم غير لبنانيين، بسبب انطباع خطأ بأنهم فلسطينيون، سوريون أو أرمن وعمال من الريف اللبناني كانوا يقيمون في غرف بسقوف من التنك على أراض تملكها الدولة.

هذا الانطباع حرم مهجري الكرنتينا من تعاطف حظي به مهجرو مناطق أخرى عادوا بغالبيتهم إلى أراضيهم، وآخرهم المهجرون المسيحيون من بلدة بريح ذات الغالبية الدرزية. إذ اتخذت خطوات تنفيذية مطلع 2013 لإقفال ملفهم بإشراف رئيس الجمهورية ميشال سليمان. غير أن مهجري الكرنتينا ظلوا خارج أراضيهم مسجلين في دوائر أخرى منها المزرعة ورأس بيروت. فلا يحق لهم «لأسباب أمنية» مجرد زيارة أملاكهم وتفقدها بعد أن دمرت البيوت التي كانت مبنية عليها.

تختصر تلك الأسباب ظاهرياً بوجود ثكنة للجيش اللبناني عليها، أما باطنها فيتوزع بين العنصري والطائفي والسياسي والاستثماري. 

«الحياة» بحثت في قضية مهجري الكرنتينا، وكشفت مماطلة رسمية وإهمالاً، إن لم يكن تواطؤاً أيضاً، بين أجهزة في الدولة منذ 1990، بدءاً من رؤساء الجمهورية الذين لا يغفلون ذكر «عودة المهجرين» في خطابات قسمهم، مروراً بمجلس الوزراء الذي يقع على عاتقه إصدار القرارات في هذا الشأن ومراقبة تطبيقها.

انعكس كل ذلك ظلماً على فئة واسعة من اللبنانيين كانوا على الدوام موضع تشكيك في هويتهم وانتمائهم.

وجمعت «الحياة» وثائق ومستندات رسمية وصوراً وتصريحات معنيين مباشرين، لكشف قضية الظلم اللاحق بأهالي الكرنتينا، الذين «لو لم يكتب عليهم التهجير لكانت حياة بعضهم أفضل بكثير مما هي عليه اليوم»، وفق قول عدد منهم، ولتثبت أن المهجرين لبنانيون يملكون عقارات كانت مقامة عليها بيوتهم وليسوا محتلين، والتزامهم القوانين في ملاحقة قضيتهم لم يعد إليهم حقوقهم.

البيوت «الحــلوة» التي يقول المهجرون إنها كانت لهم قبل عام 1976 لا أثر لها في «الكرنتينا». إذ يبدو متجر «سليب كومفورت» لبيع المفروشات غريباً في منطقة لم تغادرها رائحة الحرب وصورها. فالمباني القليلة المأهولة متناثرة في القسم الغربي من المنطـــقة بعيـــداً من الثكـــنة، ولا تزال آثار الرصاص تغــــطي جـــدرانها الخارجـــية، فيما مســاحات واسعة من الأرض البور يكسوها العشب بعد تدمير ما كان عليها. وفي القسم الشرقي، خلف مركز «فوروم دي بيروت» تقع ثكنة الجيش اللبناني التي حلّت أوائل التسعينات مكان مجلس حربي كان شيّد بدوره على أنقاض بيوت المهجرين فور إخراجهم منها في عام 1976.



أطلال وإنكار 

ثمّة من ينكر حتى اليوم أن تلك البيوت كانت موجودة يوماً.

أما قيادة الجيش، فلم ترد على أول رسالة إلكترونية طلبنا فيها السماح لنا بزيارة المنطقة ومقابلة مصدر عسكري لحسم الجدل الدائر حول القضية. القيادة رفضت الطلب عبر الهاتف على كتاب ثانٍ تقـــدمنا به بعد ثمــانية أيام (في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2012) من تقديم الكتاب الأول للغاية نفسها.

غير أن عميداً متقاعداً في الجيش اللبناني - طلب عدم ذكر اسمه وقال إن خدمته سبقت اندلاع الحرب في الكرنتينا - يؤكد أن لا مجال لنقل الثكنة من مكانها القريب من المرفأ. فـ «بيروت مكتظة ولا مساحات غير مأهولة يمكن نقل الثكنة إليها. كما أن كل بقعة أرض يوجد فيها الجيش من الصعب تركها، خصوصاً في ظل الوضع الأمني المتوتر حالياً».

لكن، هل يبرر الوضع الأمني استمرار بقاء الجيش في المنطقة لأكثر من 23 عاماً؟

يستند المصدر إلى «القانون العام الذي يعطي الدولة حق مصادرة أراض واستخدامها للضرورات العسكرية. هذا القانون يبيح لنا مصادرة بيوت ويمكن أن نعوّض أصحابها».

السؤال عن الضرر الواقع على المهجرين من المنطقة والذين يعيشون ظروفاً صعبة على رغم أنهم من المالكين، يبدو غريباً على المصدر العسكري. فيعيد ترديد الرواية عن بيوت التنك، قائلاً: «الكرنتينا كانت عبارة عن مجموعة من بيوت التنك، والخيم التي أوى إليها لاجئون من جنسيات مختلفة».

كلام العميد ينفيه المهجرون. كما ينكره وزير الداخلية السابق بشارة مرهج (1992) الذي يؤكد أن المنطقة كانت مأهولة. وتحسم الجدل هنا صور قليلة نجت من بين الأنقاض تظهر جانباً من الحياة في المنطقة. فتبدو بيوت من طبقتين وأكثر، وطرق معبدة وسيارات. ولا يبدو من أثر لبيوت التنك التي تروج لها الرواية الشائعة. المهجرون يقولون إنها كانت موجودة بالفعل، لكن ليس في منطقتهم، بل في الأحياء المجاورة، حيث أقيمت مخيمات للأرمن المهجرين مطلع القرن الماضي ولفلسطينيين لجأوا إلى لبنان بعد النكبة وما تلاها ولسوريين كانوا يعملون في لبنان وغادروه خلال الحرب.

هذه المعلومات لا يجد الضابط رداً عليها سوى القول: «ربما اختلط علي المكان».



صكوك دامغة
وإضافة إلى الصور، تؤكد صكوك ملكية وأرقام حوالى 220 عقاراً وأسماء مالكيها حصلت «الحياة» عليها، أن بيوتاً من طبقات عدة كانت تقام على هذه الأرض وأن مالكيها لبنانيون أصيلون.

يقول أحد المهجرين من آل دياب - في السبعينات من عمره ويملك أحد العقارات التي أقيمت عليها الثكنة - إن «الجيش وضع يده على العقارات قبل أكثر من 20 سنة، أي منذ خروج «القوات اللبنانية» التي دخلت المنطقة بعد «الكتائب». ويضيف: «في ذلك الوقت استبشرنا خيراً، وقلنا إن حقنا سيعود إلينا، لكن لم يحصل شيء. أصل المشكلة هي وجودنا قرب المرفأ، حيث تسعى شركات كثيرة إلى تملك الأراضي القريبة منه في سياق خطة لتوسعته»، على ما يوضح.



تقاضٍ معلّق

المحامي فؤاد مطر يقول إن التهجير طاول في الأساس 220 عقاراً يملكها حوالى ستة آلاف لبناني من طوائف مختلفة. بعد انتهاء الحرب أي في أوائل التسعينات عادت 40 عائلة (حوالى 200 شخص) معظمهم من المسيحيين إلى عقاراتهم التي يتركز معظمها في الجزء الغربي من المنطقة، والتي لم تهدم خلال الحرب. القسم الشرقي كاملاً مملوك لأشخاص من الطائفة السنيّة ويضم حوالى 132 عقاراً إضافة إلى عقارات تملكها البلدية منها مرأب ومستوصف. هذا القسم يمنع العودة إليه أو التصرف به بعد هدم كل ما كان قائماً عليه.



ما الذي يمنع الأهالي من العودة؟

يرى المحامي مطر أن مسؤولين وعدوا بإعادة هؤلاء. على أن وضع الجيش في الواجهة وعدم رغبة الأهالي في وضع أنفسهم في مواجهة مع الجيش منعت المهجرين من تصعيد تحركاتهم. ويقول: «في 1993 وبعد خروج «القوات» دخل الجيش إلى المنطقة، وأقام فوج التدخل الثالث في الثكنة التي حلّت مكان المجلس الحربي». وفي العام التالي صدر القرار 322 عن مجلس الوزراء، والذي سمح بإعادة ترميم أملاك المهجرين في القرى والبلدات دون المدن، أي أنه استثنى بيروت، ومهجري الكرنتينا تحديداً. كما أنه لم يشمل إعفاء المهجرين في المدن من الضرائب والرسوم المفروضة على إعادة بناء منازلهم المهدمة. يرى المحامي أن القرار ألزم مهجري المدن وحدهم بدفع ضرائب ورسوم عن السنوات السابقة وبالتقدم بطلبات رخص الإعمار. وهذا يعتبره المحامي «محاولة لإبعاد الأهالي، فالعقار الذي كان يملكه شخص صار يملكه الآن أكثر من عشرة (بعد زيادة أعداد الورثة على امتداد 40 سنة) وبالتالي الضرائب المتراكمة على الفترة قد تفوق قيمة عائدات كل فرد من العقار».

ويتحدث عن مطالبات بإخلاء الأراضي، دعمها مرسوم صدر في عام 1996 عن مجلس الوزراء ويقضي بإخلاء المنطقة من أي وجود قائم. لم تتمكن معدة التقرير من الحصول على نسخة من المرسوم.



وعود بالإخلاء
أرسلت لجنة مهجري الكرنتينا مذكرات للجيش بعد عام 1990. وأجاب عليها بتاريخ 4/ 7/ 2009 (نص الرد بين المستندات المرفقة بالتحقيق) بإمضاء قائد الجيش العماد جان قهوجي: «اتخذت القيادة الإجراءات اللازمة للمباشرة بإقامة ثكنة جديدة لمصلحة القطعة التي تشغل هذه العقارات وسيصار إلى إخلائها فور إنجاز هذه الثكنة». لكن العودة لم تحصل إلى الآن.

لجنة مالكي ومهجري المدور وهو اسم المنطقة عقارياً، بصدد تقديم دعوى قضائية بإخلاء الجيش، وتحصيل تعويضات، وفق ما يؤكد المحامي مطر مستنداً إلى مجموعة من الملفات الجاهزة مع مستنداتها.

المحامي حسن مطر رئيس لجنة مهجري الكرنتينا، يعرض الرسائل التي وجهتها لجنة مهجري الكرنتينا الى المسؤولين من رؤساء الحكومات أو وزراء المهجرين أو قيادة الجيش على امتداد السنوات التي تلت انتهاء الحرب منذ عام 1990 حتى اليوم، وإلى قيادة الجيش والردود التي جاءت من القيادة. ويقول: «أول رسالة من قائد الجيش جان قهوجي قال فيها إن الجيش سيخلي المكان، وإنهم بصدد بناء ثكنة خلال سنة». مرت ثلاث سنوات ولم يحصل شيء. أواخر 2011 اتصلوا بي من وزارة الدفاع وطلبوا أن أذهب إلى قيادة الجيش، فاعتقدت بداية أنهم يريدون الاتفاق معنا على ترتيبات الخروج. ذهبت إلى مكان قرب المحكمة العسكرية حيث سلمني عميد في الجيش رسالة، وكان ما فيها خطيراً: «نعلمكم أننا لا نستطيع الخروج من المنطقة إلا بعد إزالة الأسباب التي من أجلها دخلنا».

وما هي تلك الأسباب. يجيب مطر: «قبل هذه الرسالة كنا التقينا وزير المهجرين أكرم شهيب (عيّن عام 2009)، وكنا كلما أتوا بوزير للمهجرين التقيناه لنعرض قضيتنا. غير أن وزراء المهجرين دائماً يتنصلون بحـــجة الأوضاع وأن فترة ولايتهم ستنتهي قبل حل القضية. الوزير شهيب التقى قائد الجيش ونقل عنه أن «الأسباب الأمنية المتعلقة بحماية المدخل الشرقي لبيروت تمنعهم من إخلاء الأرض». يقول مطر إن الحجة التي تساق دائماً «أنهم يريدون الحفاظ على أمن بيروت». لكنّه يتساءل: «هل أمن بيروت يقف عند حد منطقة الكرنتنيا؟ هذا ليس صحيحاً، الحقيقة أنه ممنوع أن يعود أهل المنطقة إليها».



نقل الثكنة ليس مستحيلاً
عن خيار بيع الأراضي للجيش يقول الوزير مرهج إن الجيش في العادة لا يستملك، لكن إذا كان بالفعل المركز استراتيجياً يمكن وزارة الدفاع أن تطلب استملاك الأرض فيتخذ مجلس الوزراء القرار، وتنفذه المالية.

يرفض مرهج القول إن الجيش لا يمتلك مكاناً آخر لنقل الثكنة: «فعندما نقول إن هناك سبباً أمنياً من دون أن نربطه بمهلة زمنية ومن دون قرار من مجلس الوزراء لا يعود الإجراء قانونياً، بل حكماً عرفياً. فمن يشرع ويقول إن الوضع أمني؟ لا يكفي أن تقول قيادة الجيش وحدها ذلك. وحتى لو قالت ذلك على مجلس الوزراء أن يعوض على الناس».

غير أن ما يحول دون ذلك هو وفق مرهج «أساساً، الأهواء الطائفية التي تلعب دوراً في تعقيد المشكلة، وتضع عراقيل في وجه الحل. هناك أسباب طائفية غير معلنة - على اعتبار أن المهجرين مسلمون والمنطقة ذات غالبية مسيحية ويقع فيها مقر الرابطة المارونية - ويلي هذه الأسباب أن الدولة مرتبكة بالنسبة إلى التخطيط للمنطقة، سواء بالنسبة إلى ضمها إلى مشروع لينور (مشروع اقتصادي يقضي في جانب منه بردم شاطئ البحر في مناطق عدة)، أو بالنسبة إلى توسعة المرفأ ليشملها». وهذا أرخى بثقله على المنطقة التي وضعت تحت إشارة «قيد الدرس، ما عطّل الحركة والإنشاءات، والإجراءات الإدارية العادية فيها. كما أن هناك قانوناً صدر عام 1994 ورقمه 244 أعطى المهجر الحق في إعادة بناء منزله، من دون أن يتكبد مصاريف الرخصة أو تصاريح البناء، واستثنيت هذه المنطقة. وهذا كان ضد المهجرين من هذه المنطقة، ولم يطبق على سواهم»، على ما يضيف. ويؤكد أن «أهل المنطقة لبنانيون أباً عن جد. والعقارات (التي تقوم عليها الثكنة) البعض منها حر، والبعض الآخر عليه وضع اليد، وبعضها غير قابل للتصرف بسبب الإجراءات. جملة هذه التعقيدات هي التي تجعل الوضع هناك قيد الدرس وقيد التعطيل وقيد الظلم، هناك حجز للملكية وحجز لحرية التصرف بها».

ويحمل مرهج الدولة ممثلة بمجلس الوزراء مجتمعاً المسؤولية الكبرى لأنها «جمّدت العقارات بحجة الدرس، وهي لم تباشر بعد بالدرس». ولا يرى أي أفق لحل القضية في المدى المنظور، فـ «المشكلة كبرت والحل يحتاج إلى جرأة».

بعيداً من كل هذا الجدل القانوني، هناك .. في غرفة صغيرة في الـ «سان سيمون»، يجتمع شمل عائلة الحاجة سامية وأهلها خلال الزيارات العائلية. تستعيد الشقيقات الثلاث ذكريات ما قبل التهجير، وتحضر كبيرتهم صندوقاً خشبياً فيه صور للعائلة والأقرباء. تستحضر الصور لسامية ذكريات سعيدة، فتستعين بما يظهر فيها وتروي فتتورّد وجتناها من جديد: «كان الشبان يجتمعون عصراً على المفارق، كان رياض يملك محلاً للتسلية «فليبرز». كان يمر من أمام بيتي قبل توجهه إلى المحل فأعرفه من عطره. كانت أيام الـ «تاباك» و «غلامور» و «راماج».

بعد زواجنا، كنا ننتظر حتى إقفال المحل منتصف الليل، لنذهب مشاوير إلى جونيه، حيث كان محل شهير لبيع البوظة. كان بيتنا جميلاً وجديداً، إذ لم يكن مضى على زواجنا إلا سنة ونصف السنة قبل التهجير. ومحمد كانت له غرفة نوم منفصلة فيها ملابسه التي حيكت كلها يدوياً، وصندوق مجوهرات ممتلئ، فهو كان الحفيد الأول والكل يحبه. تركنا كل شيء ولم نعلم أننا لن نعود، تركنا كل مصاغنا وأموالنا، وراحت كلها.



عزلة تحت الدرج

تحت الدرج المؤدي إلى مبنى قديم في تلة الخياط في بيروت، ممر صغير يؤدي إلى غرفة لا تزيد مساحتها عن 25 متراً مربعاً. الغرفة تنخفض متراً عن مستوى الشارع، ويشكل الشبّاك الصغير مصدراً وحيداً للنور والهواء. في الداخل تتوزع ثلاث كنبات هي كل الأثاث. وعلى الحائط توجد خزانة كبيرة وبجانبها ثلاجة. أما المطبخ والحمام، فيقعان في جانب من الممر، اقتطعته العائلة بعيد التهجير على أن يكون موقتاً... لكنه بات دائماً.

إلى هذه الغرفة لجأت عائلة رياض دياب بعد أيام على تهجيرها من الكرنتينا عام 1976. الحاج رياض، أب لشابين وفتاة. محمد ولد في الكرنتينا، والثانية رانيا ولدت غداة يوم التهجير والثالث عماد ولد في تلة الخياط.

«هذه الكنبات تتحول ليلاً إلى أسرّة نتقاسمها جميعاً»، على ما تقول ربة المنزل.

الحياة في «الغرفة» لا تغري الحاجّة بالحديث عنها. فـ «وضعنا الآن لا يقارن بالسابق، عندما كان الأبناء في المدارس ويحتاج كل منهم إلى مساحته الخاصة للدرس واللعب. اليوم بتنا ثلاثة فقط بعد زواج رانيا وعماد». لكن ما يغري الحاجّة للحديث هو «زمن الكرنتينا». هنا فقط تتبدل نبرة صوتها وفق التفاصيل التي ترويها، ويغوص حتى يكاد يختفي مع وصول الرواية إلى يوم التهجير.

لكن قبل ذلك اليوم، كيف كانت الحياة في الكرنتينا؟

«كان وضعنا جيداً جداً. كان لدينا ما نريده، وكان إخوتي يبدلون السيارات سنوياً. وفتيات الكرنتينا كن يلبسن الفساتين كما سعاد حسني ويتبارين بمهارة الخياطة. ويقاطعها زوجها بالقول: «كنا قريبين من ساحة البرج وسوق الطويلة وسوق إياس (وسط بيروت). نسير عصراً إلى الأسواق. الناس كانت مبسوطة. كانت أياماً جميلة. بيوتنا حلوة وكنّا من الملاّكين».



شبكة بيع أراضٍ

«لم يسمحوا لنا مرة واحدة بزيارة أرضنا»، يقول الحاج رياض أحد المهجرين. ابنه عماد أمضى فترة خلال خدمته العسكرية في ثكنة الكرنتينا. يروي الحاج بأسى: «وعندما ذهبت لزيارته لم يسمحوا لي بالدخول، فقابلته في الخارج، مع أن الأرض أرضي وابني يخدم فيها. عماد قال للعــسكريين الذين معه حينها: «أنتم جميعاً في أرضي». فنظر اليه الضابط مستغرباً، فقلت للضابط: «هنا بيتي، تماماً حيث هذه الشجرة».

الحديث عن الكرنتينا يبدو موجعاً للعائلة، لكن «ما زلنا عايشين. أملك أرضاً يساوي سعر المتر المربع فيها أكثر من أربعة الآف دولار (المحامي يقول إن المضاربة العقارية قد ترفع سعر المتر إلى 10 آلاف)، بينما نعيش في غرفة تحت الأرض». ويتحدث عن تعويضات رمزية تلقاها الأهالي من الدولة عن الضرر الناجم عن هدم الأبنية: «20 ألف دولار على كل طبقة هدمت لا تعادل قيمتها الأملاك والمقتنيات والسيارات التي سرقت».

يبدي رياض مخاوفه من سماسرة يأتون بين حين وآخر للطلب إلى الأهالي بيع أراضيهم بأقل من ثلاثة الآف دولار للمتر الواحد، وأحياناً بنحو ألفي دولار. ويقول: «هناك شبكة تستغل الناس، واعتقد أن عدم اعطائنا حقنا هدفه دفعنا إلى اليأس لبيع أرضنا برخص التراب. وأنا أعرف أصلاً أربعة مهجرين باع ورثتهم الأرض بمبالغ زهيدة بسبب حاجتهم المادية».

هذه الشبكة يتحدث عنها أيضاً المحامي فؤاد مطر: «يبدو أن مشروعاً أعد منذ وقت، ويقضي بعدم عودتنا لأسباب طائفية إلى بوابة بيروت الشمالية لتبقى سوليدير مرتاحة وتكون امتداداً لمشروع مستقبلي تجاري لسوليدير لأنها قريبة من الحوض الخامس الذي هو مهم جداً على الصعيد السياحي لأهميته البحرية».

أما ما الذي استند عليه ليقول ذلك؟ فيجيب: «تلقينا عروضاً كثيرة للبيع عبر سماسرة، رغم وجود الثكنة، لكن قضيتنا مثل قضية الشعب الفلسطيني، حق العودة».

من يعرض؟ يجيب المحامي: «حاول الرئيس رفيق الحريري في التسعينيات، ولم ينجح. آنذاك عرضنا قضيتنا على الحكومة، وقلنا إن أصحاب الأرض بيروتيون وينتخبون في الدائرة الأولى، أي حاولنا استغلالها انتخابياً، فأحلونا إلى لجنة مكلفة من مجلس الوزراء لدرس الأمر، وفي إحدى المرات نصحني احدهم: «لا تحلموا بالعودة. هناك مشاريع تنتظر هذه الأرض. وربما كان محقاً».

يشير على الخارطة إلى قطعة ارض محاذية للثكنة، ويقول: «كانت تقع ضمن سور الثكنة قبل بيعها (ما يمنع على صاحبها التصرف بها)، لكنه جرى تغيير مكان السوار لتتم عملية البيع». ويتابع: «كانت الأرض لناس من بيت البدوي. باعوا بسبب الظلم الذي صار له 40 سنة، وبسبب تردي أحوالهم المادية والصحية، وتزايد أعداد الورثة».

حاولنا التأكد من هذه المعلومات من قيادة الجيش، لكن طلبنا قوبل بالرفض.

Thursday, March 7, 2013

نساء على خط المواجهة

«نساء على خطوط المواجهة»:
مؤتمر هواجس اللبنانيات والقلق من التمييز 



بيروت - منال أبو عبس
الخميس ٧ مارس ٢٠١٣
http://alhayat.com/Details/489832

عكس مؤتمر «نساء على خطوط المواجهة» الذي نظمته «مؤسسة مي شدياق- معهد الإعلام» في بيروت قبل أيام، هواجس نساء لبنان المطالبات بحقوقهن المدنية والسياسية، كما عكس خوفاً من تضييق هامش الحرية واتساع فسحة التمييز الجنسي بحقهن في لبنان أسوة بما يحصل في بلدان مثل مصر، لعبت فيها المرأة دوراً في إنجاز ثورة وطنية، ثم ما لبثت الثورة نفسها أن عزلتها في بداية الطريق.

وعلى رغم أن المؤتمر الذي عقد برعاية عقيلة الرئيس اللبناني وفاء ميشال سليمان وحضور عقيلات الرؤساء السابقين منى الياس الهراوي وجويس أمين الجميل ونايلة رينيه معوض، وديبلوماسيين وسياسيين وناشطين، لم يحمل حلولاً لمشكلات المرأة، إذ اكتفى باستعراض مطالبها ومنها الكوتا النسائية وحق المرأة في منح الجنسية لأولادها وغيرها، غير أن اقتراحات قدمت على هامش المؤتمر لقيت تجاوباً من الجمهور ومنها سؤال طرحته معوض عن سبب عدم تهديد المرأة التي تشكل 53 في المئة من المجتمع اللبناني، بمقاطعة الانتخابات النيابية ما لم تمثّل فيها تمثيلاً صحيحاً؟

وكان المؤتمر استهل بكلمة لسليمان تحدثت فيها عن الصورة النمطية العابرة التي تظهر النساء مجرد ناشطات في الجبهات الخلفية المساندة. وأكدت أن «التغيير بحاجة إلى رافعات وآليات تنفيذ يوفرها النظام الديموقراطي لما يسمح به من حرية رأي وإمكانات مساءلة ومحاسبة وتداول دوري للسلطة». وكشفت أنها بدورها عملت من خلال الهيئة الوطنية لشؤون المرأة لتحقيق عدد من المشاريع «أبرزها تعديل خمسة قوانين تمييزية في إطار حملة تنزيه القوانين ذات الأثر الاقتصادي والاجتماعي السلبي في المرأة ووضع الاستراتيجية العشرية للمرأة (2011- 2021) وبرنامج العمل الوطني لإنقاذها. ولم يغب عن بالي حق المرأة في إعطاء جنسيتها إلى أولادها وواجب مواجهة العنف الأسري وتأمين الكوتا النسائية، ولم أتردد في دعم أولئك الذين أيدوا الزواج المدني الاختياري».

وأكدت أنه «في خضم التحولات التاريخية في العالم العربي، ما يهمني العمل على تمكين المرأة من الحفاظ على المكتسبات التي حققتها على مدى العقود الماضية، وترسيخها وتطويرها، وهي مكتسبات تتهددها مخاطر العنف والتشرذم والتطرف والأحادية».

ثم اعتبرت شدياق أن «وجود النساء على خطوط المواجهة لم يكن يوماً خياراً أو ترفاً، إنما تحدياً فرضته أحوال وطن وظروف مجتمع». وقالت: «عندما نلقي الضوء على واقع تعيشه المرأة، ظلماً وقمعاً واضطهاداً لا يعني الأمر بالضرورة أننا نسويون. أكيد لسنا عنصريين، نناصر المرأة فعلاً ونعادي الرجل حكماً.

نحن في مجتمع يأبى تفوق المرأة وإن هو ادعى تقديرها، فلا يسعني إلا أن أتوقف عند اعتبارات السياسة والطائفية التي تقصي المرأة عن حقوقها وتحلل تعنيفها بل تخضعها لأهواء الاعتبارات الدينية وللغرائز الذكورية تتحكم بمصيرها».

ورأت أن «عيبنا أننا نكتفي بالمناداة بمنح المرأة حقوقها البديهية وحكم الطوائف يقضي على كل الآمال بالعدل والسوية. نريد مساواتها بالرجل في منح الجنسية لأولادها ولكن قانون الجنسية أيام الوصاية السورية خربط العددية، وشكل نقزة للمكونات اللبنانية فصارت المرأة أسيرة البلاد الطائفية. ننادي بحمايتها من العنف الأسري المهين، لكننا نعود لنجد أنفسنا مكبلين بما يمليه علينا رجال الدين.

من قال إن الدين يقبل باللاعدل وبالتمييز بين البشر استناداً إلى الفتاوى وما ينسب خطأ إلى الكتب السماوية». واعتبرت أن وجود أسماء النساء على اللوائح الانتخابية «مسألة يجب أن تكون أكثر من طبيعية»، مذكرة بأن «المناضلة التي تأبط الرجل ذراعها في زمن الثورات حيث افترشت الساحات وصدح صوتها هادراً، لا يجب أن تعود عندما يأتي وقت توزيع المكتسبات وتنظيم الحقوق والواجبات إلى غياهب النسيان مستثناة من المراكز القيادية».

ثم أدار الزميل مارسيل غانم ندوة جمعت عقيلات رؤساء الجمهورية السابقين، حيث تحدثت كل منهن عن تجربتها في القصر. وأوضحت الجميل أن أكثر ما أعجبها بزوجها حين كان نائباً «عندما كان يلبس الثياب الخضر (بدلة الكتائب) وينزل مع الشباب إلى الجبهة»، واستعادت مراحل من الحرب اللبنانية، مذكرة بأنها فتحت مركزاً في إقليم المتن الشمالي لاستقبال المهجرين من البقاع.

كما تطرقت إلى ذكرى اغتيال ابنها الوزير بيار الجميل، وقالت: «كان عتبي كبيراً جداً على الذين قسموا 14 آذار. لو لم تنقسم 14 آذار ما كان اغتيال بيار ممكناً».

وعن تأثير رأيها في مواقف زوجها قالت: «آخر من يمكن أن يتأثر بما أقوله هو الرئيس الجميل، فالمعروف أن لدى آل الجميل لا رأي للنساء».

ثم تحدثت معوض عن تجربتها التي دامت 17 يوماً في القصر الرئاسي، مذكرة بأنها عملت في بداية حياتها صحافية وكانت أول امرأة عزباء في المهنة. وأكدت أنها لم تكن تأخذ أي قرارات بجانب زوجها.

وذكرت بأنه يوم اغتيال رينيه معوض كان طلب منها أن تستقبل السفير الألماني وتسأله عن منحة كانت مقررة للبنان بقيمة 9 ملايين مارك، «وقال لي إذا سألك عن السبب قولي إنني أريد أن أهدي الشعب اللبناني الكهرباء».

وأكدت الهراوي أنها لم تكن على اطلاع على القرارات التي كان يتخذها زوجها. وقالت: «لسوء الحظ أن الصورة عن الرئيس الهراوي أنه لم يكن عادلاً ولا منصفاً، لكنه كان عادلاً ورد الدويلات إلى الدولة وكان همه أن يسلم دولة».

ثم عرضت مداخلة كل من رجل الأعمال المصري رئيس شركة «ارواسكوم هوليدينغ» نجيب ساويروس الذي وصف بأنه «من أشد المدافعين عن المرأة وحقوقها»، وعكست مداخلته نظرة متشائمة لواقع المرأة المصرية ومستقبلها، إذ وصف «ما سمي ربيعاً عربياً بأنه تحول إلى خريف الغضب»، مذكراً بأنه «واحد من قلة من رجال أعمال أيدوا الثورة من أجل المفاهيم التي ننادي بها اليوم أي حرية التعبير وحرية المرأة والعدالة الاجتماعية. لكن بلدي بعد سنتين من الثورة لم يتحقق فيها شيء. نحن خرجنا كلنا بنية طيبة، المرأة بجانب الرجل والمسلم بجانب المسيحي لكننا اليوم نبحث عن المطالب».

كما تحدثت نائب رئيس مؤسسة الوليد بن طلال الإنسانية الوزيرة السابقة ليلى الصلح حمادة عن حياتها ومسيرتها بدءاً من الولادة إلى اغتيال الوالد الرئيس السابق للحكومة رياض الصلح ووفاة الزوج ماجد نجل الرئيس السابق للمجلس النيابي صبري حمادة.

ثم عقدت ندوة أدارها السفير البريطاني طوم فليتشر وشاركت فيها سفيرة الاتحاد الأوروبي في لبنان أنجيلينا ايخهورست وسفيرة كندا هيلاري ادامز وسفيرة باكستان رانا رحيم والرئيسة السابقة للبعثة الديبلوماسية اللبنانية في الإمارات دونا الترك، وتحدثن عن دور المرأة الديبلوماسية في الدول التي تعاني نزاعات.

ورأى فليتشر أن عدم مشاركة النساء في الحكومة اللبنانية يجب أن يُغضب الرجال والنساء. في حين قالت أدامز إن «أول كندية تُعيّن على رأس بعثة ديبلوماسية كانت إلى لبنان سنة 1954».

أما رحيم فأكدت أن النساء في باكستان يتمتعن بحماية قانونية ويحظين بحقوقهن اكثر من لبنان، مشيرة إلى انه في بلادها «لا يحق للرجل الزواج مرة ثانية إلا بموافقة خطية من زوجته الأولى، وهناك قانون ضد التحرش في مراكز العمل، وقانون لحمايتها من العنف الأسري». كما أشارت إلى كوتا نسائية بنسبة 23 في المئة في المجلس التشريعي. ورأت أنه يجب على النساء اللبنانيات أن يمارسن الضغط لانتزاع حقوقهن.

أما ترك، فأوضحت أن لبنان أول دولة عربية حصلت فيها المرأة على حقوقها السياسية بالترشح والانتخاب سنة 1953. وقالت: «لدينا ثغرات في نظامنا السياسي لكنها ليست مشكلة جندرية».

ثم أعلنت ايخهورست تأييدها الكوتا النسائية، داعية النساء في لبنان إلى المطالبة بها.

وفي ختام المؤتمر عرضت تجارب لصحافيات عاملات في مناطق النزاعات والحروب، ولسيدات أعمال ناجحات.