Sunday, March 31, 2013

مهجرو الكرنتينا

مهجرو «الكرنتينا» يملكون أغلى عقارات لبنان... ويعيشون في أقبية! 



بيروت - منال أبو عبس
الأحد ٣١ مارس ٢٠١٣
http://alhayat.com/Details/498132





تتورد وجنتا الحاجة سامية وهي تستعيد أيام «الماضي الجميل». تحكي عن بيت العائلة في الكرنتينا، وعن النقوش على حائط الرخام في صالون منزلها الواسع. تلمع عيناها، كأنما عادت للتو إلى ذاك المنزل، في «زمن العز» حين كان والدها تاجر لحوم ميسور الحال، وتعيش هي وأمها وإخوتها في رغد. يبدو أن قلة في لبنان يعرفون شيئاً عن ذلك «العز» الذي مر على أهالي منطقة تعرف شعبياً باسم «الكرنتينا» أو «المسلخ» وتقع في محلة «المدوّر» على شاطئ بيروت.

ذات ليلة منتصف كانون الثاني (يناير) 1976، بعد عام على اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، فرض تهجير قسري على سامية مثلها مثل كثيرين من قاطني الكرنتينا وقتها والمقدرين بأكثر من عشرة آلاف لبناني على وقع القصف والقتل. تركوا خلفهم بيوتاً وأرزاقاً على أمل العودة إليها بعد انتهاء العنف، وأقاموا حيث أمكن. لكن، وبعد 37 سنة على التهجير و23 سنة على انتهاء الحرب الأهلية لم يعد من باتوا يعرفون باسم «مهجري الكرنتينا» إلى بيوتهم لأسباب يقولون إنها طائفية، إذ يغلب على المنطقة الطابع المسيحي في حين ينتمي معظم المهجرين إلى الطائفة المسلمة.

معظم اللبنانيين ينظرون إلى هؤلاء المهجرين على أنهم غير لبنانيين، بسبب انطباع خطأ بأنهم فلسطينيون، سوريون أو أرمن وعمال من الريف اللبناني كانوا يقيمون في غرف بسقوف من التنك على أراض تملكها الدولة.

هذا الانطباع حرم مهجري الكرنتينا من تعاطف حظي به مهجرو مناطق أخرى عادوا بغالبيتهم إلى أراضيهم، وآخرهم المهجرون المسيحيون من بلدة بريح ذات الغالبية الدرزية. إذ اتخذت خطوات تنفيذية مطلع 2013 لإقفال ملفهم بإشراف رئيس الجمهورية ميشال سليمان. غير أن مهجري الكرنتينا ظلوا خارج أراضيهم مسجلين في دوائر أخرى منها المزرعة ورأس بيروت. فلا يحق لهم «لأسباب أمنية» مجرد زيارة أملاكهم وتفقدها بعد أن دمرت البيوت التي كانت مبنية عليها.

تختصر تلك الأسباب ظاهرياً بوجود ثكنة للجيش اللبناني عليها، أما باطنها فيتوزع بين العنصري والطائفي والسياسي والاستثماري. 

«الحياة» بحثت في قضية مهجري الكرنتينا، وكشفت مماطلة رسمية وإهمالاً، إن لم يكن تواطؤاً أيضاً، بين أجهزة في الدولة منذ 1990، بدءاً من رؤساء الجمهورية الذين لا يغفلون ذكر «عودة المهجرين» في خطابات قسمهم، مروراً بمجلس الوزراء الذي يقع على عاتقه إصدار القرارات في هذا الشأن ومراقبة تطبيقها.

انعكس كل ذلك ظلماً على فئة واسعة من اللبنانيين كانوا على الدوام موضع تشكيك في هويتهم وانتمائهم.

وجمعت «الحياة» وثائق ومستندات رسمية وصوراً وتصريحات معنيين مباشرين، لكشف قضية الظلم اللاحق بأهالي الكرنتينا، الذين «لو لم يكتب عليهم التهجير لكانت حياة بعضهم أفضل بكثير مما هي عليه اليوم»، وفق قول عدد منهم، ولتثبت أن المهجرين لبنانيون يملكون عقارات كانت مقامة عليها بيوتهم وليسوا محتلين، والتزامهم القوانين في ملاحقة قضيتهم لم يعد إليهم حقوقهم.

البيوت «الحــلوة» التي يقول المهجرون إنها كانت لهم قبل عام 1976 لا أثر لها في «الكرنتينا». إذ يبدو متجر «سليب كومفورت» لبيع المفروشات غريباً في منطقة لم تغادرها رائحة الحرب وصورها. فالمباني القليلة المأهولة متناثرة في القسم الغربي من المنطـــقة بعيـــداً من الثكـــنة، ولا تزال آثار الرصاص تغــــطي جـــدرانها الخارجـــية، فيما مســاحات واسعة من الأرض البور يكسوها العشب بعد تدمير ما كان عليها. وفي القسم الشرقي، خلف مركز «فوروم دي بيروت» تقع ثكنة الجيش اللبناني التي حلّت أوائل التسعينات مكان مجلس حربي كان شيّد بدوره على أنقاض بيوت المهجرين فور إخراجهم منها في عام 1976.



أطلال وإنكار 

ثمّة من ينكر حتى اليوم أن تلك البيوت كانت موجودة يوماً.

أما قيادة الجيش، فلم ترد على أول رسالة إلكترونية طلبنا فيها السماح لنا بزيارة المنطقة ومقابلة مصدر عسكري لحسم الجدل الدائر حول القضية. القيادة رفضت الطلب عبر الهاتف على كتاب ثانٍ تقـــدمنا به بعد ثمــانية أيام (في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2012) من تقديم الكتاب الأول للغاية نفسها.

غير أن عميداً متقاعداً في الجيش اللبناني - طلب عدم ذكر اسمه وقال إن خدمته سبقت اندلاع الحرب في الكرنتينا - يؤكد أن لا مجال لنقل الثكنة من مكانها القريب من المرفأ. فـ «بيروت مكتظة ولا مساحات غير مأهولة يمكن نقل الثكنة إليها. كما أن كل بقعة أرض يوجد فيها الجيش من الصعب تركها، خصوصاً في ظل الوضع الأمني المتوتر حالياً».

لكن، هل يبرر الوضع الأمني استمرار بقاء الجيش في المنطقة لأكثر من 23 عاماً؟

يستند المصدر إلى «القانون العام الذي يعطي الدولة حق مصادرة أراض واستخدامها للضرورات العسكرية. هذا القانون يبيح لنا مصادرة بيوت ويمكن أن نعوّض أصحابها».

السؤال عن الضرر الواقع على المهجرين من المنطقة والذين يعيشون ظروفاً صعبة على رغم أنهم من المالكين، يبدو غريباً على المصدر العسكري. فيعيد ترديد الرواية عن بيوت التنك، قائلاً: «الكرنتينا كانت عبارة عن مجموعة من بيوت التنك، والخيم التي أوى إليها لاجئون من جنسيات مختلفة».

كلام العميد ينفيه المهجرون. كما ينكره وزير الداخلية السابق بشارة مرهج (1992) الذي يؤكد أن المنطقة كانت مأهولة. وتحسم الجدل هنا صور قليلة نجت من بين الأنقاض تظهر جانباً من الحياة في المنطقة. فتبدو بيوت من طبقتين وأكثر، وطرق معبدة وسيارات. ولا يبدو من أثر لبيوت التنك التي تروج لها الرواية الشائعة. المهجرون يقولون إنها كانت موجودة بالفعل، لكن ليس في منطقتهم، بل في الأحياء المجاورة، حيث أقيمت مخيمات للأرمن المهجرين مطلع القرن الماضي ولفلسطينيين لجأوا إلى لبنان بعد النكبة وما تلاها ولسوريين كانوا يعملون في لبنان وغادروه خلال الحرب.

هذه المعلومات لا يجد الضابط رداً عليها سوى القول: «ربما اختلط علي المكان».



صكوك دامغة
وإضافة إلى الصور، تؤكد صكوك ملكية وأرقام حوالى 220 عقاراً وأسماء مالكيها حصلت «الحياة» عليها، أن بيوتاً من طبقات عدة كانت تقام على هذه الأرض وأن مالكيها لبنانيون أصيلون.

يقول أحد المهجرين من آل دياب - في السبعينات من عمره ويملك أحد العقارات التي أقيمت عليها الثكنة - إن «الجيش وضع يده على العقارات قبل أكثر من 20 سنة، أي منذ خروج «القوات اللبنانية» التي دخلت المنطقة بعد «الكتائب». ويضيف: «في ذلك الوقت استبشرنا خيراً، وقلنا إن حقنا سيعود إلينا، لكن لم يحصل شيء. أصل المشكلة هي وجودنا قرب المرفأ، حيث تسعى شركات كثيرة إلى تملك الأراضي القريبة منه في سياق خطة لتوسعته»، على ما يوضح.



تقاضٍ معلّق

المحامي فؤاد مطر يقول إن التهجير طاول في الأساس 220 عقاراً يملكها حوالى ستة آلاف لبناني من طوائف مختلفة. بعد انتهاء الحرب أي في أوائل التسعينات عادت 40 عائلة (حوالى 200 شخص) معظمهم من المسيحيين إلى عقاراتهم التي يتركز معظمها في الجزء الغربي من المنطقة، والتي لم تهدم خلال الحرب. القسم الشرقي كاملاً مملوك لأشخاص من الطائفة السنيّة ويضم حوالى 132 عقاراً إضافة إلى عقارات تملكها البلدية منها مرأب ومستوصف. هذا القسم يمنع العودة إليه أو التصرف به بعد هدم كل ما كان قائماً عليه.



ما الذي يمنع الأهالي من العودة؟

يرى المحامي مطر أن مسؤولين وعدوا بإعادة هؤلاء. على أن وضع الجيش في الواجهة وعدم رغبة الأهالي في وضع أنفسهم في مواجهة مع الجيش منعت المهجرين من تصعيد تحركاتهم. ويقول: «في 1993 وبعد خروج «القوات» دخل الجيش إلى المنطقة، وأقام فوج التدخل الثالث في الثكنة التي حلّت مكان المجلس الحربي». وفي العام التالي صدر القرار 322 عن مجلس الوزراء، والذي سمح بإعادة ترميم أملاك المهجرين في القرى والبلدات دون المدن، أي أنه استثنى بيروت، ومهجري الكرنتينا تحديداً. كما أنه لم يشمل إعفاء المهجرين في المدن من الضرائب والرسوم المفروضة على إعادة بناء منازلهم المهدمة. يرى المحامي أن القرار ألزم مهجري المدن وحدهم بدفع ضرائب ورسوم عن السنوات السابقة وبالتقدم بطلبات رخص الإعمار. وهذا يعتبره المحامي «محاولة لإبعاد الأهالي، فالعقار الذي كان يملكه شخص صار يملكه الآن أكثر من عشرة (بعد زيادة أعداد الورثة على امتداد 40 سنة) وبالتالي الضرائب المتراكمة على الفترة قد تفوق قيمة عائدات كل فرد من العقار».

ويتحدث عن مطالبات بإخلاء الأراضي، دعمها مرسوم صدر في عام 1996 عن مجلس الوزراء ويقضي بإخلاء المنطقة من أي وجود قائم. لم تتمكن معدة التقرير من الحصول على نسخة من المرسوم.



وعود بالإخلاء
أرسلت لجنة مهجري الكرنتينا مذكرات للجيش بعد عام 1990. وأجاب عليها بتاريخ 4/ 7/ 2009 (نص الرد بين المستندات المرفقة بالتحقيق) بإمضاء قائد الجيش العماد جان قهوجي: «اتخذت القيادة الإجراءات اللازمة للمباشرة بإقامة ثكنة جديدة لمصلحة القطعة التي تشغل هذه العقارات وسيصار إلى إخلائها فور إنجاز هذه الثكنة». لكن العودة لم تحصل إلى الآن.

لجنة مالكي ومهجري المدور وهو اسم المنطقة عقارياً، بصدد تقديم دعوى قضائية بإخلاء الجيش، وتحصيل تعويضات، وفق ما يؤكد المحامي مطر مستنداً إلى مجموعة من الملفات الجاهزة مع مستنداتها.

المحامي حسن مطر رئيس لجنة مهجري الكرنتينا، يعرض الرسائل التي وجهتها لجنة مهجري الكرنتينا الى المسؤولين من رؤساء الحكومات أو وزراء المهجرين أو قيادة الجيش على امتداد السنوات التي تلت انتهاء الحرب منذ عام 1990 حتى اليوم، وإلى قيادة الجيش والردود التي جاءت من القيادة. ويقول: «أول رسالة من قائد الجيش جان قهوجي قال فيها إن الجيش سيخلي المكان، وإنهم بصدد بناء ثكنة خلال سنة». مرت ثلاث سنوات ولم يحصل شيء. أواخر 2011 اتصلوا بي من وزارة الدفاع وطلبوا أن أذهب إلى قيادة الجيش، فاعتقدت بداية أنهم يريدون الاتفاق معنا على ترتيبات الخروج. ذهبت إلى مكان قرب المحكمة العسكرية حيث سلمني عميد في الجيش رسالة، وكان ما فيها خطيراً: «نعلمكم أننا لا نستطيع الخروج من المنطقة إلا بعد إزالة الأسباب التي من أجلها دخلنا».

وما هي تلك الأسباب. يجيب مطر: «قبل هذه الرسالة كنا التقينا وزير المهجرين أكرم شهيب (عيّن عام 2009)، وكنا كلما أتوا بوزير للمهجرين التقيناه لنعرض قضيتنا. غير أن وزراء المهجرين دائماً يتنصلون بحـــجة الأوضاع وأن فترة ولايتهم ستنتهي قبل حل القضية. الوزير شهيب التقى قائد الجيش ونقل عنه أن «الأسباب الأمنية المتعلقة بحماية المدخل الشرقي لبيروت تمنعهم من إخلاء الأرض». يقول مطر إن الحجة التي تساق دائماً «أنهم يريدون الحفاظ على أمن بيروت». لكنّه يتساءل: «هل أمن بيروت يقف عند حد منطقة الكرنتنيا؟ هذا ليس صحيحاً، الحقيقة أنه ممنوع أن يعود أهل المنطقة إليها».



نقل الثكنة ليس مستحيلاً
عن خيار بيع الأراضي للجيش يقول الوزير مرهج إن الجيش في العادة لا يستملك، لكن إذا كان بالفعل المركز استراتيجياً يمكن وزارة الدفاع أن تطلب استملاك الأرض فيتخذ مجلس الوزراء القرار، وتنفذه المالية.

يرفض مرهج القول إن الجيش لا يمتلك مكاناً آخر لنقل الثكنة: «فعندما نقول إن هناك سبباً أمنياً من دون أن نربطه بمهلة زمنية ومن دون قرار من مجلس الوزراء لا يعود الإجراء قانونياً، بل حكماً عرفياً. فمن يشرع ويقول إن الوضع أمني؟ لا يكفي أن تقول قيادة الجيش وحدها ذلك. وحتى لو قالت ذلك على مجلس الوزراء أن يعوض على الناس».

غير أن ما يحول دون ذلك هو وفق مرهج «أساساً، الأهواء الطائفية التي تلعب دوراً في تعقيد المشكلة، وتضع عراقيل في وجه الحل. هناك أسباب طائفية غير معلنة - على اعتبار أن المهجرين مسلمون والمنطقة ذات غالبية مسيحية ويقع فيها مقر الرابطة المارونية - ويلي هذه الأسباب أن الدولة مرتبكة بالنسبة إلى التخطيط للمنطقة، سواء بالنسبة إلى ضمها إلى مشروع لينور (مشروع اقتصادي يقضي في جانب منه بردم شاطئ البحر في مناطق عدة)، أو بالنسبة إلى توسعة المرفأ ليشملها». وهذا أرخى بثقله على المنطقة التي وضعت تحت إشارة «قيد الدرس، ما عطّل الحركة والإنشاءات، والإجراءات الإدارية العادية فيها. كما أن هناك قانوناً صدر عام 1994 ورقمه 244 أعطى المهجر الحق في إعادة بناء منزله، من دون أن يتكبد مصاريف الرخصة أو تصاريح البناء، واستثنيت هذه المنطقة. وهذا كان ضد المهجرين من هذه المنطقة، ولم يطبق على سواهم»، على ما يضيف. ويؤكد أن «أهل المنطقة لبنانيون أباً عن جد. والعقارات (التي تقوم عليها الثكنة) البعض منها حر، والبعض الآخر عليه وضع اليد، وبعضها غير قابل للتصرف بسبب الإجراءات. جملة هذه التعقيدات هي التي تجعل الوضع هناك قيد الدرس وقيد التعطيل وقيد الظلم، هناك حجز للملكية وحجز لحرية التصرف بها».

ويحمل مرهج الدولة ممثلة بمجلس الوزراء مجتمعاً المسؤولية الكبرى لأنها «جمّدت العقارات بحجة الدرس، وهي لم تباشر بعد بالدرس». ولا يرى أي أفق لحل القضية في المدى المنظور، فـ «المشكلة كبرت والحل يحتاج إلى جرأة».

بعيداً من كل هذا الجدل القانوني، هناك .. في غرفة صغيرة في الـ «سان سيمون»، يجتمع شمل عائلة الحاجة سامية وأهلها خلال الزيارات العائلية. تستعيد الشقيقات الثلاث ذكريات ما قبل التهجير، وتحضر كبيرتهم صندوقاً خشبياً فيه صور للعائلة والأقرباء. تستحضر الصور لسامية ذكريات سعيدة، فتستعين بما يظهر فيها وتروي فتتورّد وجتناها من جديد: «كان الشبان يجتمعون عصراً على المفارق، كان رياض يملك محلاً للتسلية «فليبرز». كان يمر من أمام بيتي قبل توجهه إلى المحل فأعرفه من عطره. كانت أيام الـ «تاباك» و «غلامور» و «راماج».

بعد زواجنا، كنا ننتظر حتى إقفال المحل منتصف الليل، لنذهب مشاوير إلى جونيه، حيث كان محل شهير لبيع البوظة. كان بيتنا جميلاً وجديداً، إذ لم يكن مضى على زواجنا إلا سنة ونصف السنة قبل التهجير. ومحمد كانت له غرفة نوم منفصلة فيها ملابسه التي حيكت كلها يدوياً، وصندوق مجوهرات ممتلئ، فهو كان الحفيد الأول والكل يحبه. تركنا كل شيء ولم نعلم أننا لن نعود، تركنا كل مصاغنا وأموالنا، وراحت كلها.



عزلة تحت الدرج

تحت الدرج المؤدي إلى مبنى قديم في تلة الخياط في بيروت، ممر صغير يؤدي إلى غرفة لا تزيد مساحتها عن 25 متراً مربعاً. الغرفة تنخفض متراً عن مستوى الشارع، ويشكل الشبّاك الصغير مصدراً وحيداً للنور والهواء. في الداخل تتوزع ثلاث كنبات هي كل الأثاث. وعلى الحائط توجد خزانة كبيرة وبجانبها ثلاجة. أما المطبخ والحمام، فيقعان في جانب من الممر، اقتطعته العائلة بعيد التهجير على أن يكون موقتاً... لكنه بات دائماً.

إلى هذه الغرفة لجأت عائلة رياض دياب بعد أيام على تهجيرها من الكرنتينا عام 1976. الحاج رياض، أب لشابين وفتاة. محمد ولد في الكرنتينا، والثانية رانيا ولدت غداة يوم التهجير والثالث عماد ولد في تلة الخياط.

«هذه الكنبات تتحول ليلاً إلى أسرّة نتقاسمها جميعاً»، على ما تقول ربة المنزل.

الحياة في «الغرفة» لا تغري الحاجّة بالحديث عنها. فـ «وضعنا الآن لا يقارن بالسابق، عندما كان الأبناء في المدارس ويحتاج كل منهم إلى مساحته الخاصة للدرس واللعب. اليوم بتنا ثلاثة فقط بعد زواج رانيا وعماد». لكن ما يغري الحاجّة للحديث هو «زمن الكرنتينا». هنا فقط تتبدل نبرة صوتها وفق التفاصيل التي ترويها، ويغوص حتى يكاد يختفي مع وصول الرواية إلى يوم التهجير.

لكن قبل ذلك اليوم، كيف كانت الحياة في الكرنتينا؟

«كان وضعنا جيداً جداً. كان لدينا ما نريده، وكان إخوتي يبدلون السيارات سنوياً. وفتيات الكرنتينا كن يلبسن الفساتين كما سعاد حسني ويتبارين بمهارة الخياطة. ويقاطعها زوجها بالقول: «كنا قريبين من ساحة البرج وسوق الطويلة وسوق إياس (وسط بيروت). نسير عصراً إلى الأسواق. الناس كانت مبسوطة. كانت أياماً جميلة. بيوتنا حلوة وكنّا من الملاّكين».



شبكة بيع أراضٍ

«لم يسمحوا لنا مرة واحدة بزيارة أرضنا»، يقول الحاج رياض أحد المهجرين. ابنه عماد أمضى فترة خلال خدمته العسكرية في ثكنة الكرنتينا. يروي الحاج بأسى: «وعندما ذهبت لزيارته لم يسمحوا لي بالدخول، فقابلته في الخارج، مع أن الأرض أرضي وابني يخدم فيها. عماد قال للعــسكريين الذين معه حينها: «أنتم جميعاً في أرضي». فنظر اليه الضابط مستغرباً، فقلت للضابط: «هنا بيتي، تماماً حيث هذه الشجرة».

الحديث عن الكرنتينا يبدو موجعاً للعائلة، لكن «ما زلنا عايشين. أملك أرضاً يساوي سعر المتر المربع فيها أكثر من أربعة الآف دولار (المحامي يقول إن المضاربة العقارية قد ترفع سعر المتر إلى 10 آلاف)، بينما نعيش في غرفة تحت الأرض». ويتحدث عن تعويضات رمزية تلقاها الأهالي من الدولة عن الضرر الناجم عن هدم الأبنية: «20 ألف دولار على كل طبقة هدمت لا تعادل قيمتها الأملاك والمقتنيات والسيارات التي سرقت».

يبدي رياض مخاوفه من سماسرة يأتون بين حين وآخر للطلب إلى الأهالي بيع أراضيهم بأقل من ثلاثة الآف دولار للمتر الواحد، وأحياناً بنحو ألفي دولار. ويقول: «هناك شبكة تستغل الناس، واعتقد أن عدم اعطائنا حقنا هدفه دفعنا إلى اليأس لبيع أرضنا برخص التراب. وأنا أعرف أصلاً أربعة مهجرين باع ورثتهم الأرض بمبالغ زهيدة بسبب حاجتهم المادية».

هذه الشبكة يتحدث عنها أيضاً المحامي فؤاد مطر: «يبدو أن مشروعاً أعد منذ وقت، ويقضي بعدم عودتنا لأسباب طائفية إلى بوابة بيروت الشمالية لتبقى سوليدير مرتاحة وتكون امتداداً لمشروع مستقبلي تجاري لسوليدير لأنها قريبة من الحوض الخامس الذي هو مهم جداً على الصعيد السياحي لأهميته البحرية».

أما ما الذي استند عليه ليقول ذلك؟ فيجيب: «تلقينا عروضاً كثيرة للبيع عبر سماسرة، رغم وجود الثكنة، لكن قضيتنا مثل قضية الشعب الفلسطيني، حق العودة».

من يعرض؟ يجيب المحامي: «حاول الرئيس رفيق الحريري في التسعينيات، ولم ينجح. آنذاك عرضنا قضيتنا على الحكومة، وقلنا إن أصحاب الأرض بيروتيون وينتخبون في الدائرة الأولى، أي حاولنا استغلالها انتخابياً، فأحلونا إلى لجنة مكلفة من مجلس الوزراء لدرس الأمر، وفي إحدى المرات نصحني احدهم: «لا تحلموا بالعودة. هناك مشاريع تنتظر هذه الأرض. وربما كان محقاً».

يشير على الخارطة إلى قطعة ارض محاذية للثكنة، ويقول: «كانت تقع ضمن سور الثكنة قبل بيعها (ما يمنع على صاحبها التصرف بها)، لكنه جرى تغيير مكان السوار لتتم عملية البيع». ويتابع: «كانت الأرض لناس من بيت البدوي. باعوا بسبب الظلم الذي صار له 40 سنة، وبسبب تردي أحوالهم المادية والصحية، وتزايد أعداد الورثة».

حاولنا التأكد من هذه المعلومات من قيادة الجيش، لكن طلبنا قوبل بالرفض.

Thursday, March 7, 2013

نساء على خط المواجهة

«نساء على خطوط المواجهة»:
مؤتمر هواجس اللبنانيات والقلق من التمييز 



بيروت - منال أبو عبس
الخميس ٧ مارس ٢٠١٣
http://alhayat.com/Details/489832

عكس مؤتمر «نساء على خطوط المواجهة» الذي نظمته «مؤسسة مي شدياق- معهد الإعلام» في بيروت قبل أيام، هواجس نساء لبنان المطالبات بحقوقهن المدنية والسياسية، كما عكس خوفاً من تضييق هامش الحرية واتساع فسحة التمييز الجنسي بحقهن في لبنان أسوة بما يحصل في بلدان مثل مصر، لعبت فيها المرأة دوراً في إنجاز ثورة وطنية، ثم ما لبثت الثورة نفسها أن عزلتها في بداية الطريق.

وعلى رغم أن المؤتمر الذي عقد برعاية عقيلة الرئيس اللبناني وفاء ميشال سليمان وحضور عقيلات الرؤساء السابقين منى الياس الهراوي وجويس أمين الجميل ونايلة رينيه معوض، وديبلوماسيين وسياسيين وناشطين، لم يحمل حلولاً لمشكلات المرأة، إذ اكتفى باستعراض مطالبها ومنها الكوتا النسائية وحق المرأة في منح الجنسية لأولادها وغيرها، غير أن اقتراحات قدمت على هامش المؤتمر لقيت تجاوباً من الجمهور ومنها سؤال طرحته معوض عن سبب عدم تهديد المرأة التي تشكل 53 في المئة من المجتمع اللبناني، بمقاطعة الانتخابات النيابية ما لم تمثّل فيها تمثيلاً صحيحاً؟

وكان المؤتمر استهل بكلمة لسليمان تحدثت فيها عن الصورة النمطية العابرة التي تظهر النساء مجرد ناشطات في الجبهات الخلفية المساندة. وأكدت أن «التغيير بحاجة إلى رافعات وآليات تنفيذ يوفرها النظام الديموقراطي لما يسمح به من حرية رأي وإمكانات مساءلة ومحاسبة وتداول دوري للسلطة». وكشفت أنها بدورها عملت من خلال الهيئة الوطنية لشؤون المرأة لتحقيق عدد من المشاريع «أبرزها تعديل خمسة قوانين تمييزية في إطار حملة تنزيه القوانين ذات الأثر الاقتصادي والاجتماعي السلبي في المرأة ووضع الاستراتيجية العشرية للمرأة (2011- 2021) وبرنامج العمل الوطني لإنقاذها. ولم يغب عن بالي حق المرأة في إعطاء جنسيتها إلى أولادها وواجب مواجهة العنف الأسري وتأمين الكوتا النسائية، ولم أتردد في دعم أولئك الذين أيدوا الزواج المدني الاختياري».

وأكدت أنه «في خضم التحولات التاريخية في العالم العربي، ما يهمني العمل على تمكين المرأة من الحفاظ على المكتسبات التي حققتها على مدى العقود الماضية، وترسيخها وتطويرها، وهي مكتسبات تتهددها مخاطر العنف والتشرذم والتطرف والأحادية».

ثم اعتبرت شدياق أن «وجود النساء على خطوط المواجهة لم يكن يوماً خياراً أو ترفاً، إنما تحدياً فرضته أحوال وطن وظروف مجتمع». وقالت: «عندما نلقي الضوء على واقع تعيشه المرأة، ظلماً وقمعاً واضطهاداً لا يعني الأمر بالضرورة أننا نسويون. أكيد لسنا عنصريين، نناصر المرأة فعلاً ونعادي الرجل حكماً.

نحن في مجتمع يأبى تفوق المرأة وإن هو ادعى تقديرها، فلا يسعني إلا أن أتوقف عند اعتبارات السياسة والطائفية التي تقصي المرأة عن حقوقها وتحلل تعنيفها بل تخضعها لأهواء الاعتبارات الدينية وللغرائز الذكورية تتحكم بمصيرها».

ورأت أن «عيبنا أننا نكتفي بالمناداة بمنح المرأة حقوقها البديهية وحكم الطوائف يقضي على كل الآمال بالعدل والسوية. نريد مساواتها بالرجل في منح الجنسية لأولادها ولكن قانون الجنسية أيام الوصاية السورية خربط العددية، وشكل نقزة للمكونات اللبنانية فصارت المرأة أسيرة البلاد الطائفية. ننادي بحمايتها من العنف الأسري المهين، لكننا نعود لنجد أنفسنا مكبلين بما يمليه علينا رجال الدين.

من قال إن الدين يقبل باللاعدل وبالتمييز بين البشر استناداً إلى الفتاوى وما ينسب خطأ إلى الكتب السماوية». واعتبرت أن وجود أسماء النساء على اللوائح الانتخابية «مسألة يجب أن تكون أكثر من طبيعية»، مذكرة بأن «المناضلة التي تأبط الرجل ذراعها في زمن الثورات حيث افترشت الساحات وصدح صوتها هادراً، لا يجب أن تعود عندما يأتي وقت توزيع المكتسبات وتنظيم الحقوق والواجبات إلى غياهب النسيان مستثناة من المراكز القيادية».

ثم أدار الزميل مارسيل غانم ندوة جمعت عقيلات رؤساء الجمهورية السابقين، حيث تحدثت كل منهن عن تجربتها في القصر. وأوضحت الجميل أن أكثر ما أعجبها بزوجها حين كان نائباً «عندما كان يلبس الثياب الخضر (بدلة الكتائب) وينزل مع الشباب إلى الجبهة»، واستعادت مراحل من الحرب اللبنانية، مذكرة بأنها فتحت مركزاً في إقليم المتن الشمالي لاستقبال المهجرين من البقاع.

كما تطرقت إلى ذكرى اغتيال ابنها الوزير بيار الجميل، وقالت: «كان عتبي كبيراً جداً على الذين قسموا 14 آذار. لو لم تنقسم 14 آذار ما كان اغتيال بيار ممكناً».

وعن تأثير رأيها في مواقف زوجها قالت: «آخر من يمكن أن يتأثر بما أقوله هو الرئيس الجميل، فالمعروف أن لدى آل الجميل لا رأي للنساء».

ثم تحدثت معوض عن تجربتها التي دامت 17 يوماً في القصر الرئاسي، مذكرة بأنها عملت في بداية حياتها صحافية وكانت أول امرأة عزباء في المهنة. وأكدت أنها لم تكن تأخذ أي قرارات بجانب زوجها.

وذكرت بأنه يوم اغتيال رينيه معوض كان طلب منها أن تستقبل السفير الألماني وتسأله عن منحة كانت مقررة للبنان بقيمة 9 ملايين مارك، «وقال لي إذا سألك عن السبب قولي إنني أريد أن أهدي الشعب اللبناني الكهرباء».

وأكدت الهراوي أنها لم تكن على اطلاع على القرارات التي كان يتخذها زوجها. وقالت: «لسوء الحظ أن الصورة عن الرئيس الهراوي أنه لم يكن عادلاً ولا منصفاً، لكنه كان عادلاً ورد الدويلات إلى الدولة وكان همه أن يسلم دولة».

ثم عرضت مداخلة كل من رجل الأعمال المصري رئيس شركة «ارواسكوم هوليدينغ» نجيب ساويروس الذي وصف بأنه «من أشد المدافعين عن المرأة وحقوقها»، وعكست مداخلته نظرة متشائمة لواقع المرأة المصرية ومستقبلها، إذ وصف «ما سمي ربيعاً عربياً بأنه تحول إلى خريف الغضب»، مذكراً بأنه «واحد من قلة من رجال أعمال أيدوا الثورة من أجل المفاهيم التي ننادي بها اليوم أي حرية التعبير وحرية المرأة والعدالة الاجتماعية. لكن بلدي بعد سنتين من الثورة لم يتحقق فيها شيء. نحن خرجنا كلنا بنية طيبة، المرأة بجانب الرجل والمسلم بجانب المسيحي لكننا اليوم نبحث عن المطالب».

كما تحدثت نائب رئيس مؤسسة الوليد بن طلال الإنسانية الوزيرة السابقة ليلى الصلح حمادة عن حياتها ومسيرتها بدءاً من الولادة إلى اغتيال الوالد الرئيس السابق للحكومة رياض الصلح ووفاة الزوج ماجد نجل الرئيس السابق للمجلس النيابي صبري حمادة.

ثم عقدت ندوة أدارها السفير البريطاني طوم فليتشر وشاركت فيها سفيرة الاتحاد الأوروبي في لبنان أنجيلينا ايخهورست وسفيرة كندا هيلاري ادامز وسفيرة باكستان رانا رحيم والرئيسة السابقة للبعثة الديبلوماسية اللبنانية في الإمارات دونا الترك، وتحدثن عن دور المرأة الديبلوماسية في الدول التي تعاني نزاعات.

ورأى فليتشر أن عدم مشاركة النساء في الحكومة اللبنانية يجب أن يُغضب الرجال والنساء. في حين قالت أدامز إن «أول كندية تُعيّن على رأس بعثة ديبلوماسية كانت إلى لبنان سنة 1954».

أما رحيم فأكدت أن النساء في باكستان يتمتعن بحماية قانونية ويحظين بحقوقهن اكثر من لبنان، مشيرة إلى انه في بلادها «لا يحق للرجل الزواج مرة ثانية إلا بموافقة خطية من زوجته الأولى، وهناك قانون ضد التحرش في مراكز العمل، وقانون لحمايتها من العنف الأسري». كما أشارت إلى كوتا نسائية بنسبة 23 في المئة في المجلس التشريعي. ورأت أنه يجب على النساء اللبنانيات أن يمارسن الضغط لانتزاع حقوقهن.

أما ترك، فأوضحت أن لبنان أول دولة عربية حصلت فيها المرأة على حقوقها السياسية بالترشح والانتخاب سنة 1953. وقالت: «لدينا ثغرات في نظامنا السياسي لكنها ليست مشكلة جندرية».

ثم أعلنت ايخهورست تأييدها الكوتا النسائية، داعية النساء في لبنان إلى المطالبة بها.

وفي ختام المؤتمر عرضت تجارب لصحافيات عاملات في مناطق النزاعات والحروب، ولسيدات أعمال ناجحات.

Tuesday, January 22, 2013

السوريون النازحون الى البقاع وصقيعه:
الفساد يضرب المساعدات والأمم المتحدة مقصّرة 


http://alhayat.com/Details/474807
الثلاثاء ٢٢ يناير ٢٠١٣ 




البقاع (شرق لبنان) - منال أبو عبس 

يحمل الرجل ورقة مدوناً عليها رقم بالإنكليزية. يقول إنه يقف أمام مكتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في بلدة المرج في البقاع شرق لبنان منذ ساعتين، ويستبعد أن يصل إليه الدور للتسجيل في المكتب قبل ساعتين أخريين. الازدحام أمام المكتب يؤكد صحة كلام الرجل الستيني الذي اختار أن يقف بعيداً من المدخل، تحاشياً لسماع الصراخ الذي يعلو بين حين وآخر بين حرس المركز وبين النازحين من سورية المحتجين على طول الانتظار. 

يقول الرجل إنه يتردد على المركز منذ شهرين، وإنه يتقاسم مع 21 «نفراً» هم أولاده وعائلاتهم «برّاكية أعطانا إياها أولاد الحلال في بلدة غزة»، ولا يزال ينتظر المساعدات التي لم تصله مرة، لكن «إذا أعطونا كتّر خيرهم، وإذا لم يعطونا نتدبر أمورنا عبر أولاد الحلال». 

إلى جانب الرجل، تقف سيدة مع زوجها ومعهما طفل رضيع. السيدة تقول إنها تقدمت وعائلة زوجها بطلب التسجيل في مكتب المفوضية، وقبل 14 يوماً اتصلوا بها من المكتب، فـ «صوّرونا وصوّروا الأولاد، ومنذ ذلك اليوم لم تصلنا أية مساعدات». تقيم مع تسعة نازحين من العائلة في غرفة في زحلة، «صاحب البيت ابن حلال. لم يتقاضَ منا أي بدل للايجار، في انتظار ان نقبض المساعدات». 

عائلة أخرى يقف أفرادها بعيداً من المركز، نزحت من معرة النعمان إلى زحلة حيث أقام أفرادها في كاراج مقابل 250 ألف ليرة لبنانية شهرياً. يقول أحمد إنه ينتظر أن يخف الازدحام أمام المركز ليسأل «الصبايا» عن سبب تأخر المساعدات، ويؤكد أن أصعب ما مرت به عائلته منذ النزوح كان العاصفة الأخيرة، إذ «لم ينظر في حالنا أحد. وقصدنا المركز الدنماركي خلال العاصفة وطلبنا منه مدفأة ومازوتاً، فقالوا إنهم سيستجيبون لطلبنا ولم نسمع رداً حتى الآن». 

أمام مركز التسجيل لم يخف الازدحام بعد ساعات من بدء العمل. وتواصلت الاحتجاجات وتبادل الصراخ بين النازحين المطالبين بحقهم في معرفة سبب تأخر المساعدات أو التسجيل، وبين عناصر الحرس الذين يسجل تعاطي عدد منهم بـ «عدائية» ظاهرة مع المحتجين بصرف النظر عما إذا كانوا نساء أم شيوخاً. 

على مقربة من مركز التسجيل، يبدو المخيم الذي أقامته «رابطة العالم الإسلامي - هيئة الإغاثة الإسلامية السعودية» في المرج وتتولى البلدية إدراة شؤونه، منظماً أكثر من أي من «تجمعات اللجوء» الأخرى سواء في المرج نفسها التي تكتظ بيادرها بخيم النازحين أم في بلدات البقاع الأوسط كسعدنايل وتعلبايا حيث يقطن معظم النازحين في غرف مستأجرة. 

يقع المركز على قطعة أرض فسيحة، مرصوفة بالبحص بطريقة تجعلها أعلى من الأراضي الزراعية المحيطة بها، وعلى جوانبها حفرت قبل العاصفة الأخيرة خنادق لتتسرب إليها مياه الأمطار. يتكون المخيم من 20 خيمة مساحة الواحدة 16 متراً مربعاً، وداخل كل منها أربع فرشات ومدفأة تعمل على المازوت الذي يوزع في غالونات بلاستيك يومياً. أما الطعام، فتتولى النازحات إعداده في مطبخ كبير شارك النازحون في بنائه، كما بنوا عدداً من الحمامات ضمن نطاق المخيم. الحياة في المخيم يقول النازحون إنها أفضل مما هي عليه خارجه، وإن كانوا يجمعون على أن لا مكان أحلى من الوطن. لكن، كيف تمضي يوميات النازحين هنا؟ 

يجول عنصر البلدية بين الخيم، ويقول إن البلدية عبر عناصرها أو رئيس البلدية عماد شموري موجدان في شكل دائم هنا، إذ يمنع على «أي غريب» الدخول إلى المخيم، كما يمنع بعد الخامسة عصراً على أي نازح المغادرة. أما السبب، فيقول: «طالما أن البلدية مسؤولة هنا، فلن نسمح بحصول أي شواذ». ويضيف: «خلال العاصفة الأخيرة لم يتأثر النازحون في المخيم. لم تصل المياه إلى الخيم بفضل الخنادق التي حفرناها، وكانت التدفئة ممتازة داخل الخيم». ويشير إلى خيم موضبة على جنب، ليوضح أنها مخصصة لعائلات تصل فجأة، إذ إن «العدد يتزايد يومياً». 

يؤكد أبو أحمد كلام عنصر البلدية، ويقول إنه جاء وعائلته من معضمية الشام قبل ثلاثة أسابيع. يقيم مع أمه وأبيه وشقيقته في إحدى الخيم، فيما تقيم زوجة أخيه مع أولادها الأربعة في خيمة مجاورة. أخوه أصيب في سورية واختار البقاء هناك. 

تتحدث والدته عن القائمين على المخيم الذين «الله يعطيهم العافية ما عم يقصروا، خصوصاً الريس (رئيس البلدية)، حتى سيارة الإسعاف موجودة دائماً هنا تحسباً للحالات الطارئة». تحكي عن يوميات النزوح وعن «الأوضاع القاسية بالنسبة إلينا»، وتسأل الله أن «يردنا إلى بيوتنا. هذا أهم شيء». وعن الوضع في سورية، تقول: «فليجازِ الله من كان السبب. كنا في بيوتنا بكرامتنا». ويضيف ابنها: «ليس هناك أصعب من الذل. وأصلاً نحن لم نفكر في النزوح. لكن بيتنا دمر في القصف، وحوصرت منطقتنا، فهربنا لإنقاذ الأطفال». يقول إن «الاتصال مع الأقارب في سورية صعب. الوضع هناك سيئ كثيراً، ومنطقتنا محاصرة منذ أكثر من 50 يوماً، والقصف شغال. عندما كنا هناك كان 40 في المئة من البيوت غير مدمر، الآن لم يبق شيء». 

من الخيمة المجاورة تخرج صبية على يدها طفلة تبكي. الطفلة لم يتجاوز عمرها العام ونصف العام، تقول الوالدة إنها مصابة بالتهاب معوي. نسألها عما إذا كان السبب هو الطعام، فتجيب انه وزع على النازحين موكيت تفوح منه رائحة المازوت، وكان هو ما أثر في الطفلة. 

تبدو الصبية راضية عن حالها في المخيم «مقارنة بما نسمعه من معاناة النازحين في مناطق أخرى»، وتقول إن كل شيء يصل إليها. أما الحليب، فتجيب أن «لا حليب بين المساعدات ولا سيريلاك للأطفال. لكننا نتدبر أمورنا». كيف؟ ترد: «نذيب اللبن مع الماء ونطعمه للصغار بدلاً من الحليب». 

من خيمة أخرى يخرج شاب سوري، يده مضمدة حتى أسفل الكتف. يكشف عن رأسه ليري رجلاً يتحدث بلهجة سورية آثار الشظايا التي أخرجها الأطباء من رأسه، والأخرى التي لم يتمكنوا من إخراجها. الرجل يقول إنه من جمعية تعنى بإغاثة النازحين وإنه يعمل على تأمين الطبابة للجرحى بإصابات خفيفة وعلى تأمين الأدوية والثياب. 

بعيداً من المخيم تضج البلدة بالنازحين. ويتحدث أصحاب محال البقالة عن سوريين يقصدونهم على امتداد ساعات النهار بحثاً عن غرف للإيجار، ما انعكس ارتفاعاً كبيراً في أسعار الإيجارات على رغم تدخل أئمة المساجد وتخصيصهم جانباً من خطب الجمعة لدعوة المالكين إلى عدم رفع قيمة الإيجارات. ففي حين كان إيجار المنزل المكون من ثلاث غرف لا يتعدى 250 دولاراً، ارتفع فجأة إلى أكثر من 500 دولار بسبب الطلب الكثيف. وعمد كثيرون إلى تأجير مرأب السيارات في المبنى، وحتى غرف تعرف في القرى باسم غرف «المؤونة» لقاء مبالغ كبيرة نسبياً. غير أن الواقع هذا لا ينفي حالات كثيرة قام بها أصحاب البيوت وبعضها غير مأهول في المرج وفي بلدات أخرى مجاورة كسعدنايل وتعلبايا بتقديم بيوتهم مقابل إيجار رمزي أو من دون مقابل، أو إلى تقديم مساحة محددة من أراض زراعية يملكونها إلى نازحين لإقامة خيم لهم عليها. 




«أولاد ناس مثلكم» 

تستند سيدة إلى ابنتها لتصلا إلى مدخل المخيم. تطلب السيدة المحجبة والمتأنقة من رئيس البلدية أن يساعدها في تحصيل حقها. وتجهد وهي تحاول أن تفسر له أنها لا تطلب صدقة، فـ «نحن من الشام، ولسنا محتاجين، لكن لنا حق هنا». تخبر السيدة قصتها التي بدأت مع مقتل زوجها خلال القصف على الغوطة الشرقية، وأصابتها وابنها، وتبكي وهي تقول: «المسكين دفناه وهربنا كي لا يموت الأولاد». وتقصد بالأولاد هنا الصبية التي ترافقها وابنها المصاب اللذين تقيم معهما في منزل مستأجر مقابل 300 دولار في بلدة جب جنين. 

الحق الذي تطالب به السيدة هو المساعدات التي يتسملها المسجلون لدى الأمم المتحدة، وتقول إنها تقدمت قبل ستة أشهر مع أولادها بطلب للتسجيل، ومنذ ذلك الحين لم يتصل بهم أحد، و «كلما راجعناهم قالوا إن التسجيل بالدور، وفي آخر مرة قالوا إنهم ربما اتصلوا بنا ولم يجبهم أحد. وهذا غير صحيح». تكرر السيدة أنها «لا تطلب صدقة، فنحن أولاد ناس ونخجل من مغادرة بيوتنا. لكن الحياة في لبنان مكلفة جداً، وأموالنا شارفت على النفاد. مراجعة الطبيب مثلاً تكلف مع الدواء مئة دولار». تعرض وصفات طبية لأدوية للسكري والضغط، وتقول إنها غير قادرة على تحمل الكلفة. 

أما أكثر ما يزعج السيدة وابنتها هو أن «أشخاصاً نعرفهم نزحوا قبل 15 يوماً ويتلقون منذ وصولهم مساعدات». 

يقول رئيس البلدية إن حال السيدة ليست فردية، فـ «يومياً تأتينا عشرات الحالات من أشخاص لم يتم تسجيلهم في المفوضية». لكنه يوضح أن الآلية المعتمدة في مكتب التسجيل أن الناس تقدم الطلبات، وكل يوم يختار المسؤولون في مكتب التسجيل حوالى 80 إلى 100 اسم ويتصلون بهم، ومن لا يتمكنون من الوصول إليه يتأخر تسجيله. ويضيف أن المساعدات تأتي في شكل دوري وأحياناً يومي من جهات مختلفة إلى إمام مسجد البلدة، وتوزع على النازحين أغطية وثياب ومعونات غذائية. لكنه يشير إلى أن سوريين كانوا يعملون ويقيمون في البلدة منذ سنوات، سجلوا أنفسهم نازحين وصاروا يتلقون المساعدات بدلاً من آخرين. 

كما يؤكد أن الأرقام المتداولة عن أعداد النازحين غير دقيقة، ففي البقاع وحده، يقول «هناك أكثر من 200 ألف نازح». 

وعن حال السيدة، يقول: إذا كانت مصابة يمكن أن تذهب إلى المستشفى، ومن هناك يتصلون بالهيئة الطبية الدولية التي يأتي أشخاص منها للكشف عليها، ويطلبون تسجيلها في المفوضية. 

غير أن الحديث عن الهيئات الطبية ومفوضية الأمم المتحدة، يثير احتجاج ناشطين في الشأن الإغاثي، ويقول سمير: «كون هذه المنظمة دولية لا ينفي عنها صفة الفساد. موظفوها يتقاضون رواتب عالية، وهناك احتجاجات من النازحين على طرق التعاطي معهم وعلى الانتقائية في التسجيل وتوزيع المساعدات». 


مهندس بـ200 دولار 

في منزل من غرفتين تقيم عائلة المهندس عماد لقاء بدل شهري يبلغ 300 دولار. العائلة مكونة من ستة أشخاص لا معيل لها إلا أقارب لبنانيون يتولون دفع الإيجار ومساعدات غذائية. يقول مأمون وهو لبناني تربطه قرابة بعائلة المهندس السوري، إن عماد نزح قبل أربعة أشهر، وتقدم بطلب التسجيل وتسجل قبل أكثر من شهر في المفوضية ولم تصله إلا مرة واحدة «كوبونات بـ23 ألف ليرة للفرد الواحد». أما الحديث عن توزيع مازوت وأغطية لجميع المسجلين، فينفيه مأمون مؤكداً أن الجيران قدم كل منهم شيئاً من أغراض بيته لمساعدة العائلة النازحة. 

يتحدث مأمون عن فساد في توزيع المساعدات، ويقول إنه اشترى أكثر من مرة من نازحين ولبنانيين كوبونات مازوت قيمتها 300 ألف ليرة مقابل 200 ألف. يتحدث عن نية قريبه المهندس العودة إلى الشام قريباً على رغم تضرر بيته في القصف، إذ لم ينجح في إيجاد عمل يعيل منه أسرته، ويقول: «قبل فترة عمل على مشروع مقابل مئتي دولار، في حين أن أي مهندس لبناني لم يكن ليتقاضى على المشروع نفسه أقل من ألفي دولار».

Monday, January 14, 2013

فرعون: «الارثوذكسي» يقلب الصيغة ولا يحل مشكلة الأمن والعدالة والسلاح 


الإثنين ١٤ يناير ٢٠١٣ 


بيروت - منال أبو عبس 

أكد النائب ميشال فرعون أن لا مجال أبداً لتأجيل موعد الانتخابات النيابية، وأن الرئيس ميشال سليمان قال انه سيطعن دستورياً بأي مشروع للتأجيل الذي «سيجعلنا باباً مفتوحاً على المخاطر».

وجدد فرعون، النائب عن المقعد الكاثوليكي في دائرة بيروت الاولى، في حديث الى «الحياة» رفضه مشروع قانون «اللقاء الارثوذكسي» الانتخابي الذي يعطي كل طائفة حق انتخاب نوابها، لكنه أشار الى أن المشروع يصلح لـ «تأهيل المرشحين، بمعنى أن تجرى دورة اولى للانتخابات على أساسه على ألا يحق لمرشح من طائفة معينة الترشح ما لم يحصل على 25 في المئة من أصوات الناخبين في طائفته. ثم ينتقل المرشحان الحائزان أكبر عدد من الاصوات الى الدورة الثانية التي لا تكون على الصعيد المذهبي، وذلك يفرض على المرشح أن يكون معنياً بمشكلات الشريحة التي انتخبته، أي طائفته».

وتحدث فرعون عن هواجس المسيحيين التي قيل إن مشروع الارثوذكسي جاء ليبددها، فأكد ان هذه الهواجس محقة، و «حلها لا يؤمنه المشروع الارثوذكسي، فالهواجس هنا حول الدولة والامن والعدالة وتطبيق الطائف والخوف من السلاح. وهذه لا تحل بقانون فيه الكثير من المخاطر، اولها أنه يقلب الصيغة اللبنانية، ولا يحل مشكلة الامن والعدالة وظاهرة السلاح وغيرها».

لكن، هل تحل المشاريع الاخرى هذه المشكلات؟ يجيب فرعون: «قانون الدوائر الصغرى يمكن أن يحلها، فهو يطبق في عدد من دول العالم، وباريس مثلاً مقسمة الى 18 دائرة. الدوائر الصغرى تقرب الناخب من النائب وتجعل للأقليات صوتاً مؤثراً، كما أنها مع بعض التعديلات ومع اللامركزية الادارية تجعل المعركة الانتخابية محلية وتقرّب الناخب من المرشح».

ورفض فرعون القول إن رفضه المشروع الارثوذكسي ناجم عن خوفه على «الكرسي»، فقال: «على الصعيد الكاثوليكي، ربما يناسبني هذا الطرح. فداخل طائفتي هناك انتخاب لنائب الرئيس للمجلس الاعلى للروم الكاثوليك يشمل كل الفاعليات داخل الطائفة، والرئيس هو البطريرك وانتخبت انا نائباً للرئيس. هذا يؤكد أن مشكلتي ليست على الصعيد الطائفي. المهم أن ننظر الى المصلحة الوطنية ثم المسيحية ولاحقاً الكاثوليكية».

وعن القول ان المشروع الارثوذكسي يحمي المسيحيين، ويحيدهم عن الصراع السني - الشيعي في البلد، يجيب فرعون: «نحن نطمح الى اكثر من هذا. في اعلان بعبدا تحدثنا عن تحييد لبنان. كمسيحيين يجب ان نكون عنصراً مهماً وفاعلاً لفرض نوع من التحييد للبنان. المخاطر اليوم من الفتنة موجودة بسبب عدم شرعية الحكومة، وعدم تطبيق النأي بالنفس والزج بلبنان في صراعات كبرى»، ويضيف: «كل طائفة كبيرة، بخاصة السنية والشيعية، عليها ان تعيد حساباتها وتدرس المخاطر. الاستقواء يمكن أن يطبق في مرحلة، غير أن رد الفعل قد يكون اكبر ونتائجه أخطر. وهذا حصل خلال الحرب اللبنانية. الطائفة الشيعية اليوم في يدها السلاح، وعليها أن توجد تسويات لعدم زج لبنان في الصراعات. فالقلق من السلاح يؤدي الى رد الفعل، وهناك مطالب اليوم للبعض بأن يتسلحوا»، مؤكداً أن «هناك دوراً مطلوباً للمسيحيين في هذه المرحلة. وليس الحل في أن يجد المسيحي نفسه غير معني، فبعض المصالح المشتركة تساعد في الحل».

وعما اذا كان رفض الطرح الارثوذكسي سببه الخوف على المناصفة في المقاعد النيابية بين المسلمين والمسيحيين؟ يقول فرعون: «هذا جزء من المشكلة. نحن نتمسك بروحية الطائف ونرفض الذهاب الى مغامرات جديدة، لا سيما اننا نخاف من تغيير البيئة في بعض الطوائف، ما يجعلنا نرفض أي تهديد او استفزاز بالسلاح. هذه الحكومة تنمي هذا التوتر والتدهور والشعور بالاستفزاز، وهذا يحتاج الى معالجة. ليس من مصلحتنا ان نصب الزيت على النار بأن نفتح مخاطر جديدة».

واعتبر فرعون أن تبني رئيس «تكتل التغيير والاصلاح» النيابي ميشال عون الطرح وايحاءه بأن حلفاءه، أي «حزب الله» وحركة «أمل»، موافقون عليه سببه «الخطأ الكبير الذي ارتكبه وزراؤه العشرة عندما نزلوا الى مجلس النواب بمشروع النسبية الذي الغى خصوصية الاشرفية المسيحية وجزين والمتن وغيرها، لكنّه (تيار عون) صوّت عليه لأنه كان يريد التمسك بالسلطة وبالاكثرية ولو كان ذلك على حساب المسيحيين، معتمداً على أصوات حلفائه. رد الفعل الكبير على ذلك وخصوصاً في الوسط المسيحي جعله يذهب بعيداً ويتبنى مشروع اللقاء الارثوذكسي ويزايد مسيحياً. لكن، حسابات العماد عون ليست دائماً صحيحة». ويعتبر أن حلفاء عون «ربما بعدما تأكدوا من أن الرئيس سليمان سيرفض هذا المشروع، ساروا به مسايرة وارضاء لعون، خصوصاً بعدما وجدوا أن هناك تجاوباً من تيار المستقبل لمشروع الدوائر الصغرى، وصارت حفلة مزايدات».

Tuesday, January 8, 2013

المرأة السورية": الخوف يعيق توثيق الإنتهاكات" 


الثلاثاء ٨ يناير ٢٠١٣


عمان - منال أبو عبس 

في مقتطف مدته ست دقائق من فيلم stories of the other war للمخرج السوري هشام زعيقي، تظهر المرأة السورية رأس حربة الحراك الثوري في سورية. الشخصية الرئيسية في المقتطف، طفلة تتحدث بلغة البالغين عن الغلاء والحرية ومعنى الذل، وفتيات سافرات ومحجبات يهتفن لسقوط النظام، وتعتلي إحداهن شاحنة لتصور ما تقوم به نساء سوريات في بداية الثورة على النظام الحاكم في بلادهن.

في فيديو آخر على موقع «يو تيوب» تظهر امرأة ممددة وسط الشارع بعد اصابتها برصاص قناصة في حمص. يحاول رجلان انتشال جثة المرأة مستخدمين عصا حديدية معقوفة الرأس، ولا يفلحان. يمكن سماع صوت الرصاص وصراخ غير مفهوم، قبل أن تجتاز سيدة محجبة الشارع وتمسك بيد المرأة الممدة على الارض وتسحبها باتجاه الرجلين، ثم تكمل سيرها.

في الفيلم كما في الفيديو تظهر المرأة السورية ثائرة، قوية، متماسكة، ومبادرة. في الثاني تغلبت من تبدو امرأة قروية عادية على حاجز الخطر الذي لم يجرؤ الرجلان على اجتيازه خوفاً من نيران القناصة. وفي الفيلم الاول الذي قال مخرجه انه لم يستكمل لأسباب مادية، تظهرالمرأة رائدة في حراك ثوري يوشك على بلوغ عامه الثاني. غير أن صورتها في الحالتين، لا تشبه أبداً الصورة العامة أو المعممة للمرأة السورية المنتهكة في بلدها و «المهربة» الى دول الجوار لحفظ كرامة العائلة اولاً وكرامتها ثانياً.

وإن كانت الصورة المحفوظة أكثر تعبيراً عن واقع النساء السوريات اللاجئات الى دول الجوار. ففي لبنان، ووفق تقريرين نشرتهما «الحياة» في آذار (مارس) وكانون الاول (ديسمبر) من العام الماضي عن السوريين النازحين كانت النساء «الحلقة الاضعف» في الصراع وكان الهرب وسيلة لوقاية العائلة من «المذلة». اذ قالت سيدة سورية هربت وعائلتها من حمص الى عرسال: «البلدة بأكملها عرفت ما حل بالنسوة في حمص (جسر الشغور)، عندما اجبروهن على التجرد من ملابسهن والسير عاريات امام الدبابات، بينما الجنود يسخرون منهن. رفض إخوتنا ان يحصل لنا ما حصل لنساء حمص، فساعدونا على الفرار الى لبنان حرصاً على عرضهم وشرفهم».

وفي التقرير الآخر، اجمعت العائلات التي نزح افرادها الى وادي خالد في شمال لبنان «على انها حين قررت الهروب اعطت الاولوية لبناتها لحمايتهن من الاغتصاب الوسيلة الاكثر ممارسة لانتهاك شرف العائلات السورية في الارياف. وتتحدث دعد عن قريب لها فقد ابنته لأيام، وقصد احد الضباط في الجيش النظامي لعله يساعده في العثور عليها، وطمأنه الضابط الى انه يستطيع الحضور في اليوم التالي الى مكتبه ويأخذ ابنته، وحين ذهب الأب الى مكتب الضابط، صعق بمشهد ابنته وهي عارية يأمرونها بتوزيع القهوة على الحضور وخاطب الضابط الأب قائلاً: هذه ابنتك خذها».

الفكرة التي عكسها التقريران عن واقع المرأة السورية طغت على ورشة العمل التي نظمها المكتب الاقليمي للدول العربية لدى منظمة الامم المتحدة للمرأة في عمان تحت عنوان: «الاعلام وحقوق الانسان: اطر العمل القانونية والمعايير الدولية لحماية المرأة السورية». غير أن الشهادات التي وردت على ألسنة المعنيات أنفسهن في التقريرين غابت عن الورشة، فحلّ مـحل اللاجـئات مــشاركون من الامم المتـحـدة ونـشـطاء فـي مجال حقـوق الانسـان والمـجتمع المدني واعلاميون. وكـان الهـدف «تســليط الضوء على اهمية الابلاغ عن الانتهاكات ضد المرأة السورية وتأسيس شـبكة لرفع مـستوى الوعي اثناء النزاعات ووضع استراتيجيات مستقبلية في سورية». وجرى الحديث عن قوانين دولية وإقليمية ومحلية تكفل للنساء والفتيات في زمن النزاعات حماية من انواع التمييز العنـصري والجنسي. لكن في نزاع مسلح كذاك الدائر في سورية، هل من مكان لأنظمة وقوانين وأعراف؟ وهل تلبي هذه القوانين احتياجات النازحات اللواتي يعشن الاختبار الاصعب في مخيمات اللجوء او في المدارس ومراكز الايواء، وبعضها يفتقد ابسـط مقومـات العيش (سجلت حالات وفيات بسبب البرد في اكثر من مكان)؟

الاجابات عن هذه الاسئلة وغيرها كان مفترضاً أن تأتي على ألسنة النازحات انفسهن خلال جلسات عمل الورشة، غير ان غياب المعنيات مباشرة، وعدم رغبة العاملات الاجتماعيات مع النازحات في الحديث تفصيلياً عن المشاكل التي تعانين منها بحجة السرية والخصوصية، طبعت الجلسات بالطابع النظري والقانوني البحت مع استثناءات متفرقة، وإن سعى القائمون في ختام الورشة على تبادل الآراء مع المشاركين (حقوق الانسان والمجتمع المدني والاعلاميين) لتنسيق العمل بينهم مستقبلاً من أجل تقديم تقارير حول الانتهاكات وحملات التأييد وتغطية قصة انتهاكات حقوق المرأة.



جلسات عمل
في الجلسة الاولى تحدثت المديرة الاقليمية لمكتب الدول العربية لمنظمة الامم المتحدة للمرأة سميرة التويجري والمنسقة المقيمة للامم المتحدة في الاردن كوستنزا فارينا وعضو مجلس الاعيان هيفاء ابو غزالة ومستشارة النوع الاجتماعي- مفوضية حقوق الانسان في المكتب الاقليمي في لبنان ندى دروزة والامين العام للجنة الاردنية الوطنية لشؤون المرأة اسما خضر.

وقالت التويجري ان 60 إلى 70 في المئة من النازحين السوريين الى الاردن هم من النساء والأطفال، وان عدد النازحين (المسجلين) من سورية بلغ 516632 في المنطقة حتى 12 كانون الاول 2012. 23 في المئة منهم نساء بين 18 و59 سنة، وفي الاردن وحدها 105397 نازحاً، 22 في المئة منهم نساء بين 18 و59 سنة. وأشارت الى تقارير موثقة واخرى غير موثقة عن استعمال العنف الجنسي ضد المرأة كواحد من اسلحة الحرب. وعلى رغم ان الاغتصاب الجنسي خلال النزاع في سورية طاول الرجال وفق شهادات بعضهم خصوصاً في مراكز الاعتقال، الا ان التويجري رأت أنه «عندما تغتصب المرأة تحمل عار الاغتصاب حتى اليوم الاخير من عمرها».

وجرى خلال الجلسة استعراض لأبرز القوانين الدولية والمحلية التي تحمي المرأة في حال النزاع، وأحالت المتحدثات مسؤولية استخدام المرأة السورية لهذه القرارات الى المنظمات النسائية ومنظمات حقوق الانسان والحركات النسائية. وإن برزت مخاوف مصدرها «بلدان الربيع العربي» حيث تتكشف محاولات للتراجع عن الاتفاقيات التي تكفل حقوق المرأة على اعتبار ان الاتفاقيات الدولية «اجندات من صناعة الانظمة السابقة».

وعرضت خضر التي شاركت في لجنة تقصي الحقائق في ليبيا مخاوف ثائرات سوريات من مصادرة دورهن وسيطرة اتجاهات فكرية في المرحلة الاخيرة على الساحة. في المقابل، تحدثت عن دور الاعلام في مساعدة المرأة السورية عبر «اعادة صياغة اللغة السائدة، فمثلاً اصابة المرأة في جسدها خلال الحروب ينظر اليه على انه عار، في حين الاصابة نفسها هي بطولة للرجل».

بصفتها مرشدة اجتماعية بدت خضر اكثر التصاقاً بمعاناة النازحات السوريات وبالتابو الاجتماعي الذيي يمنع كثيرات من الافصاح علناً عما تعرضن له: «نتحدث مع النساء ولم تذكر أي امرأة معلومات تفصيلية عن الاعتداءات الجنسية. لكن لما انزوي مع كل امرأة على حدة، تقول الكثير عما حدث. تقول مثلاً انه حدث مع جارتي كذا وكذا وتعطي تفاصيل. ومن درجة انفعالها ونظراتها اعرف ان ذلك حصل لها. الخوف هنا له علاقة بالثقافة السائدة والموقف القيمي الذي يحكم على المرأة المغتصبة باعتبارها بضاعة فاسدة». وتربط ذلك بتجربتها في ليبيا حيث ارتفع معدل انتحار الفتيات بين 18 و29 سنة بمعدل 10 أضعاف بعد الثورة، مشيرة الى حالات الاغتصاب الجماعي التي حصلت في مصراطة بعيد اجتياحها.

واعتبرت ان الاعلام حين يحاول أن يوثق هذه القضايا فإنه يضاعف المشكلة عند نشر الاسماء والاماكن، وأن كشف عدد من قضايا الاغتصاب كان على لسان الرجال الذين شهد بعضهم او اجبر على ممارسة او شارك في حالات اغتصاب ثم ندم لاحقاً.

وفي الجلستين التاليتين «الضحية المجهولة» و «القصة غير المحكية» سلط الضوء على صعوبة الابلاغ عن الانتهاكات التي ربما تعرضت لها نساء وفتيات في سورية أو خارجها، وضرورة زيادة الوعي والدعوة الى التغيير بطريقة محايدة.

ولوحظ في الجلسات تركيز على رفض «استغلال» الحاجات المادية والاوضاع الانسانية الصعبة للنازحين السوريين والذي يعتبر الزواج المبكر احد ابرز وجوهه وأكثرها اثارة لـ «الاستياء الدولي». وركزت أكثر من مشاركة من الاردن على نفي صحة تقارير اعلامية تحدثت عن تزويج قاصرات سوريات في مخيم الزعتري وغيره في الاردن الى اثرياء بدافع حاجة الاهل المادية أولاً، ورغبة في «ستر» بناتهن ثانياً. اذ ان القانون الاردني يمنع زواج من هم دون الثامنة عشرة من العمر إلا في حالات استثنائية، الا ان ما أكده متابعون لشؤون النازحين ان الزيجات تتم عبر خاطبات اردنيات وعبر رجال دين سوريين على انها تمت في سورية.

موضوع تزويج القاصرات والتركيز على الرفض الدولي له، كان مثار جدل بين طبيب نفسي عراقي وعدد من المشاركين. فبالنسبة الى الطبيب، المؤتمر جاء ليتبنى موقفاً من القضية وفق نظرة «الخارج» اليها. ما يراه الآخر انتهاكاً يراه آخرون طوقاً للنجاة. وينقل عن احدى الفتيات قولها «قبل أن تمنعوني من الزواج أمنوا لنا قوت يومنا»، فما كان الزواج هنا الا عقد عمل شرعي.

الانتهاك المتمثل بتزويج القاصرات ليس وحده المرفوض دولياً ومحلياً، وإن كانت الفتيات في هذه الحال بغالبيتهن لا يعرفن ان في هذا الزواج انتهاكاً لحقوقهن. غير أن حالهن كحال نساء اخريات تعرفن حقوقهن جيداً من دون أن يغير ذلك شيئاً في واقع الحال. اذ تشير تقارير الى ان الانتهاكات تأتي من أكثر من مصدر، مرة من الجيش النظامي ومرة من المعارضة، وثالثة من العائلة: فتيات قتلن بعد شيوع خبر اغتصابهن، اطباء يرفضون التصريح عن حالات اعتداء جنسي على فتيات ونساء خوفاً من عائلة الضحية أو من المعتدي، تزويج قاصرات الى اقاربهن خوفاً من العار. واللائحة تطول لتعيد الحديث الى الاتفاقات العربية والدولية التي وقعتها سورية والتي تلزمها بحماية المرأة في زمن النزاعات. أما من سيلاحق من وبأي تهمة؟ فذلك حديث آخر.