Monday, April 14, 2008

اللبنانيون يسترجعون الصور المرعبة للحرب الأهلية

جمعيات أهلية أحيت الذكرى 33 لمواجهات حصدت عشرات الآلاف
 اللبنانيون يسترجعون الصور المرعبة للحرب الأهلية


منال أبو عبس
Al-Hayat (822 كلمة)
تاريخ النشر 14 أبريل 2008


في مثل هذا اليوم قبل 33 سنة، وقع اللبنانيون في مصيدة الحماقة الكبرى. زهقت حربهم الأهلية بما فيها الاجتياح الإسرائيلي أرواح نحو مئة ألف شخص. وكبدت آخرين جروحا وإعاقات، واقتطعت من الحيوات 15 عاما لتكون محطات متتالية للرعب والتهجير والدمار.

أمس، استعرضت اكثر من جمعية ومنظمة واتحاد مشاهد من الذكرى المرعبة. استرجعت بعضا من صورها الكريهة، وألقتها عنوة أمام الأبصار ليتعظ من لم تعظه كل المرارات السابقة. بدت كمن تقول له: أن تجرب، فلن تجني إلا مزيدا من النار والقهر بين الضلوع. على مسالك خطوط التماس الجديدة (الفاصلة بين مناطق الأكثرية والمعارضة وشهدت اخيرا مواجهات بين الفريقين)، سار شبان وشابات من »الاتحاد الديموقراطي اللبناني« رافعين أعلام لبنان ومرددين أغاني السلام. وفي شوارع بيروت نظم شبان »نحنا كلنا« مسيرات سيارة ووزعوا منشورات تكشف الأسباب الحقيقية للحرب الأهلية، تحت شعار: »خدلك موقف... كبر عقلك«. وعلى مفارق مختلفة من بيروت اختارت فرق أخرى إحياء الذكرى المرعبة بمسيرات أو ندوات وحوارات في مناطق محددة.

من بين التحركات الكثيرة، واحد نفذته نحو 40 جمعية من مختلف تيارات المجتمع المدني. سلك نحو ألفي شخص خط التماس القديم - طريق مار مخايل الشياح وصولا إلى وسط بيروت- مطلقين حملة »وحدتنا خلاصنا«، تحت شعار »مسيرة مصالحة«. تقدم حملة الرايات السود وأعلام لبنان المسيرة. وساروا بمحاذاة عدد من أبنية زمن الحرب في الشياح وعين الرمانة. منظر الأبنية المتهالكة ما زال مرعبا. جدرانها ازدادت سوادا وإن نبت عليها النبات المغلف برائحة العفن. على أحد هذه الأبنية علقت صورة كبيرة لبوسطة كانت متراسا على خط راس النبع عام 1982، ولشخصين يملآن أكياس الرمل ترد الرصاص المنطلق من ناحية »العدو« اللبناني الموالي لميليشيا منافسة. على تقاطع الشياح - عين الرمانة عادت أكياس الرمل اليوم. خلفها يرابط عدد من عناصر الجيش اللبناني المتأهبين لفض الإشكالات المتكررة منذ انتهاء الحرب في المنطقة التي شهدت انطلاقة الحرب السابقة.

تتراوح أعمار المشاركين في مسيرة المصالحة بين الأطفال الرضع والعجائز الذين أرهقت كواهلهم تركة الحرب السابقة. يطغى على لباسهم اللون الأبيض وشعار الحملة. بين هؤلاء تقف آية. لا تعرف ابنة السنوات الست سبب قدومها للسير بين هذا الجمع. تعيد بصوت خافت ما تلقنها إياه والدتها: »يكفينا حروبا. اتركونا نعيش بسلام، وخذوا حروبكم بعيدا منا«.

على مقربة من آية تقف روعة المنتسبة إلى إحدى جمعيات المجتمع المدني في باب التبانة في شمال لبنان. تقول روعة إنها جاءت مع نحو مئة شخص من أنصار الجمعية ومستقلين، لتوصل رسالة إلى من يفكرون بارتكاب حماقة جديدة، بأنهم لن يجنوا إلا الويلات والخراب والموت. إلى كلام روعة تضيف ناريمان التي ولدت بعد الحرب الأهلية أن »علينا أن نوجد أملا جديدا. أن نوصل الرسالة إلى العالم كله بأننا لا نستهوي الحرب«. تضحك روعة وصديقتها من احتمال مقارنة تحركهم مع التظاهرات المليونية المتكاثرة اخيرا، وتقول الأولى: »حتما رسالتنا ستصل أسرع، فنحن لسنا هنا لنفدي أحدا بالأرواح والأولاد، بل لنوصل رسالة سلام«.

تسلك المسيرة طريق صيدا القديمة - مستديرة الطيونة، وقد زينت بلافتة كبيرة. »17356 مخطوفا... مش مستعدين نعيدها«، كتب على اللافتة. بجانب الرقم المرعب صفت صور بالأبيض والأسود لشبان ورجال، خرجوا في أيام من الحرب الطويلة وما رجعوا.

فيروز سليم هي واحدة من المعنيين بالرقم المرعب. لا تتعب السيدة التي تجاوزت الستين من تكرار الحكاية نفسها أمام كل مصور وصحافي يقصدها. ترفع أمامه صورا شمسية لخمسة شبان هم أبناؤها اكرم ومحمد وجهاد ونضال ووالدهم شوكت سليم. وتقرب الصور ما استطاعت من عدسات المصورين، علها تلتقط الملامح، فيعود إليها من خسرتهم على حاجز في جبل لبنان في 18 أيلول (سبتمبر) 1982. آنذاك أوقف عناصر الحاجز السيارة وابعدوا فيروز وبناتها الثلاثة مع أخيهم الأصغر، ليرموهم على حاجز في شمال البلاد لاحقا. ولم يرجع الشبان الأربعة. »من 25 سنة ما ارتحت«، تقول وتضيف: »لا أريد من أحد شيئا. فليخبروني أين هم وأنا بنفسي سأعيدهم، ولن أطلب شيئا في المقابل«. تمسح بمنديلها الأسود عينيها المبللتين، لتعود فتطيل النظر في صور خسارتها الكبيرة، والتي أثقلتها خسارة ابنها الأصغر وزوجته في حادث سير قبل ثلاث سنوات تاركا لها أطفاله الثلاثة. أمام فيروز تسير حاجة بلباس أسود، وإلى صدرها صورة ابنها المفقود سعد الدين الهرباوي. يغطي صراخها على عزف الفرق الكشاف المشاركة. »يا ويلي. أنا أم مخطوف«، تقول وتغرق في نوبة بكاء جديدة. تهتز العكازة التي تعينها على السير، وتصرخ: »يا أمي«، فتنقبض مع سماعها قلوب كثيرة.

أمام أمهات المخطوفين، يرفع مراهقون زميلهم على حمالة وقد غطى وجهه بقماش ابيض مبلول بسائل أحمر. ملابس الشبان أيضا ملونة بالسائل الأحمر نفسه، هو الدم الذي سيسيل مع أي حرب.

يعبر المشاركون طريق المتحف. وتحت نفق المزرعة، يستبدلون الرايات السود بأخرى بيض. يسلكون مناطق راس النبع وبشارة الخوري، ترافقهم الأناشيد الكشفية وقرع الطبول, وتحيط بهم اللافتات والصور المستعادة من الحرب، وعدد من عناصر القوى الأمنية.

في وسط بيروت، كانت المحطة الأخيرة لرافضي الحرب. هناك اجتازوا اعتصام المعارضة اللبنانية. مروا بالخيم الفارغة من روادها، وعناصر الانضباط الحزبيين. وفتحت من الليلة السابقة المساحة الفاصلة بين ساحة الشهداء، وساحة اللعازارية المفصولتين بأسلاك شائكة منذ اعتصام المعارضة. هناك وضع مسرح كبير خصص لندوات الإعلاميين ولنشاطات متفرقة.ومع بداية المساء تلا المشاركون دعاء مشتركا مع ممثلي الطوائف اللبنانية، وأطلقوا مشروع مصالحة بين أطراف الحرب الأهلية، وزرعوا شجرة زيتون في ما أسموها »حديقة السماح«.

أمس، خصص جزء من اللبنانيين يومهم لاستعادة مشاهد قاسية لم تنسها مخيلة من عايشها بعد. لم يعشها، لكنه أعلن مسبقا رفضه لها. طعمها لن يكون إلا مرا.