Wednesday, February 15, 2006

وفود انطلقت عند الفجر لتصل في الموعد

بهية الحريري تتلو الفاتحة بوشاح لم ترفعه منذ سنة . وفود انطلقت عند الفجر لتصل في الموعد

منال أبو عبس
Al-Hayat (916 كلمة)
تاريخ النشر 15 فبراير 2006


لا يعرف ابراهيم ابن بلدة عرسال البقاعية، ما الذي جاء به إلى بيروت في مثل هذا الصباح. يحمل علماً يفوقه طولاً، ويجلس إلى جانب أبناء قريته على حافة الرصيف في وسط بيروت.

متعباً يبدو إبراهيم ابن الثمانية اعوام وقد لونت ساعات الجلوس تحت الشمس وجهه بالأحمر. »جئنا بالسيارة من عرسال، أنا وأخواتي مروة وصفا وأمل، وكمان بابا وماما«، يقول ويلتفت صوب والده طالباً المساندة للإجابة عن سبب قدومهم. »من أجل الحريري«، يجيب زميله رامي الذي جاء مع خمسة من أفراد عائلته للمشاركة في التظاهرة.

لا ترضي إجابات الولدين الجارة المكتسية بالسواد. »عرسال كلها زحفت منذ الخامسة صباحاً«، تؤكد بانفعال أن »دمنا فداء للحريري، والله ينصر الوطن«.

وفد عرسال حضر في وقت مبكر من صباح أمس، لكنه لم يكن الوحيد الذي سلك طريق بشارة الخوري نزولاً نحو ساحة الحرية. وفود أخرى من مناطق بقاعية وجبلية مختلفة سلكت الطريق نفسه، غير أن لـ »متظاهري الجبل« كالعادة لونهم الخاص وهتافاتهم الساخرة والملحنة.

تضج الطريق بهتافات ضد القيادة السورية ورئيس الجمهورية اللبنانية اميل لحود، ترافقها صرخات التأييد لزعيم »الحزب التقدمي الاشتراكي« وليد جـــنبلاط وحلفائه، على وقع قرع الطبول. وترتفــع بــضعة أعلام للتقدمي، ثم تختفي تدريجياً مع اقـــتراب حـــامليها من موقع التظاهر. »كلــنا رهــن إشـــارة من أبي تيــمور (جنبلاط)«، تقــول ريــما التــي شاركــت في كــل تظــاهــرات الحــزب مــنذ عــام حــتى الآن.

يتواصل تدفق المتظاهرين مع تقدم الوقت. يتبادلون التحية مع العسكريين على الحاجز الأمني أمام وزارة المالية. ولا يبدو عليهم اثر الانزعاج من إجراءات التفتيش الأولى على مدخل التظاهرة، والتي ستليها إجراءات مماثلة من المنظمين وسط الساحة.

ومع وصول وفد الطريق الجديدة (بيروت)، تثار في المحيط ضجة من نوع آخر. ترتفع صور الرئيس الشهيد رفيق الحريري والشارات الزرق (شارات الحقيقة)، وتهتز الساحة لهتافات تنادي بأسماء الخلفاء الراشدين الأربعة، تشتم القيادة السورية ومعها لحود.

وعلى رغم امتلاء الساحة بمن فيها، لم يتوقف تدفق الشبان والرجال والنساء من أنحاء مختلفة، إلى الساحة التي تستقبلهم بصورتين عملاقتين للرئيس الشهيد تتدليان من جسر فؤاد شهاب، مذيلتين بعبارتي »اشتقنالك« و«خافوك فقتلوك«.

في قلب التظاهرة من ناحية الأشرفية صورة تجذب عدسات المصورين. سيدتان في العقد السابع، تشبكان ذراعيهما ببعضهما بعضاً. الأولى تضع حجاباً ابيض على رأسها، والأخرى تعلق صليباً في السلسة حول عنقها. السيدتان جاءتا من الأشرفية مع بقية أهل الحي للمشاركة في ذكرى من قضوا العام الماضي. وكي »يبقى لبنان لنا ولأولادنا، ومستعدون للمجيء كل يوم من أجل لبنان«، تقول الأولى. وترد الثانية على سؤال لم نسأله: »منذ 48 عاماً لم نفترق، سكنا المبنى نفسه، وسنبقى العمر كله معاً مسيحيين ومسلمين«.

تتشابه أسباب جميع المشاركين من ناحية الخطوط العريضة: »تحرير لبنان« و »استنكار أعمال القتل« و »رفع الوصاية« و«معرفة الحقيقة«. وان كان شباب »اليسار الديموقراطي« وضعوا نصب أعينهم سبباً واحداً: »استقالة لحود حتى تحقق الانتفاضة أهدافها«. يفــاخر عضو الحركة مارك ضو بـ »أننا تمكنا من بناء قرار ومسار«، مؤكداً أن التحرك »إنجاز عظيم، فقد بنينا خلال انتفاضة الاستقلال جسوراً بين بعضنا بعضاً، وتخطينا الطائفية والمنـاطقية«.

عند الحادية عشرة ظهراً، لم يكن التحرك بلغ ذروته، غير أن الحركة في الساحة تحولت مستحيلة. تلتصق أجساد المتظاهرين ببعضهم بعضاً، وتقتصر الرؤية على أعلام لبنان الملونة ترفرف في الهواء، إلى جانب صور الشهداء وبعض اللافتات. يتكئ الفتى الذي لم يبلغ السابعة من العمر على عصا العلم، ولا يفلح بوجهه الأحمر في استدرار عطف أمه التي تؤكد »أننا لن نغادر قبل أن يأتي الشيخ سعد« (الحريري).

ومع تقدم الوقت يعود عدد من المشاركين إلى منازلهم، قبل أن تبدأ كلمات السياسيين، في حين ينصرف آخرون إلى الشوارع المجاورة ليستمدوا قوة تسعفهم على ما تبقى من الوقت. غير أن تدفق الوفود من المناطق لم يتوقف في أي وقت.

لم يمض وقت طويل قبل أن تتحول الأنظار إلى جامع محمد الأمين حيث ضريح الرئيس الشهيد ورفاقه. في الداخل يقف رئيس الحكومة فؤاد السنيورة مع آخرين. يتلو الصلاة على روح »رفيقه«، من دون أن يرفع نظره عن الصورة الكبيرة المنصبة فوق باقات الورود. يرفع نظارتيه عن عينيه لمسح دموعه ويرحل.

بعد وقت قصير يدخل سعد الحريري ترافقه عمته بهية وعمه شفيق الحريري. يتلو سعد الصلاة، ويحتضن عمته، ثم يتوجه مع عمه إلى أضرحة المرافقين. تطيل بهية الوقوف أمام الضريح. لا تمسح دموعها، لكنها تتلو الفاتحة والكثير من آيات القرآن. تضبط وشاحاً ابيض لم ترفعه عن رأسها منذ عام. و«الله يعينها«، يقول أحدهم.